مُلاحظة من المُترجم: لأن ترجمة هذه المقالة سُتنشر على مدونتي وليس في أي من المواقع أو المجلات الأخرى، ولأن نشرها سيكون حرًا، وغير مرتبطٍ بمؤسسة أو جسمٍ ما، فقد آليت أن تكون الترجمة بتصرّف، وأن أشيرَ إلى «إسرائيل» على أنها دولة الاحتلال طُوال الوقت. أعي تمامًا أن هذه مقالة رأي لكاتبها، ولكن هذه مدونتي، ولا أريد أن أذكر اسم دولة الاحتلال إلا إن كان السياق يتطلب ذكرها (صفة/سلبية). وسأعمد أيضًا إلى إضافة مُلاحظات خاصّة مني لتطوير المادّة، وستكون ملاحظاتي بين (قوسين) دائمًا. الهدف من تمرين عدم ذكر دولة الاحتلال إلا بما هي عليهِ، دولة استعمار استيطاني إحلالي، هو عدم التعوّد على ذكرها ليصير استخدامها بشكل طبيعي إطلاقًا.
تأتي ترجمة هذه المقالة من باب إظهار أن الرأي العام الأميركي سواء من الشارع أو من الأكاديمية، قد بدأ بالتغير، وهذا نظرًا لعدة متغيرات، منها متغيرات شعبية وناتجة عن جهود الحراكات والاتحادات الفلسطينية في الولايات المتحدة، أو لأسباب داخلية أميركية أو لأسباب تهم أو تؤثر على السياسة الخارجية للولايات المُتحدّة. يكون التركيز بشكل كبير على الرأي العام العالمي وليس على المُجتمع الدولي، والذي نعلم كلنا أنه مُنحاز حتى النهاية باتجاه دولة الاحتلال.
نُشرت هذه المقالة لأول مرة باللغة الإنجليزية على موقع مجلة فورين بوليسي من كتابة ستيفن والت، عالم سياسة أميركي، وأستاذ كرسي روبرت ورينيه بيلفر للشؤون الدولية في كلية جون إف كينيدي للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد. قدم والت مساهمات مهمة في نظرية الواقعية الدفاعية الجديدة ووضع نظرية توازن التهديد (أو توازن القوى). ألّف وشارك في تأليف مجموعة من الكتب، منها: أصول التحالفات وكتاب الثورة والحرب وكتاب اللوبي الإسرائيلي وكتاب السياسة الخارجية للولايات المُتحدّة.
لقد انتهت الجولة القتالية الأخيرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين كالمعتاد: مع وقف إطلاقٍ للنار يكون بعده حال الفلسطينيين أسوأ، ودون حلٍ للقضايا الجوهرية. كما أكدت أيضًا أنه يجدر بالولايات المُتحدة التوقف عن إعطاء الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي غير المشروط لدولة الاحتلال. ففوائد هذه السياسة تقترب من الصفر وتكلفتها عالية وتزيد مع مرور الوقت. تحتاج الولايات المُتحدة إلى أن تبني مع دولة الاحتلال علاقة عادية.
لربما كان في الماضي تبرير وتفسير أخلاقي للعلاقة الوطيدة بين الولايات المتحدة ودولة الاحتلال. فإنشاء دولة يهودية كان يبدو (في المخيال اليوروأميركي) طبيعيًا ومناسبًا، خصوصًا بعد قرون من تعرض اليهود للاضطهاد في الغرب المسيحي، وعلى سبيل المثال لا الحصر، المحرقة النازية. كانت الأرضية الأخلاقية لإنشاء هذه الدولة مقنعة، فقط في حالة تجاهل المرء تبعات هذا القرار على العرب (الفلسطينيين)[1] الذين كانوا يسكنون فلسطين لعدة قرون (لآلاف السنين)، وإذا اعتقد المرء أن دولة الاحتلال تشترك في مع أميركا في القيم الأساسية. حتى في أميركا أيضًا، كانت الصورة مُعقدة. لربما كانت دولة الاحتلال فعلًا الديمقراطية «الوحيدة في الشرق الأوسط»[2]، ولكنها لم تكن يومًا ديمقراطية ليبرالية مثل الولايات المُتحدة، بحيث تتمتع جميع الأديان والأعراق بالحقوق المتساوية (بغض النظر عن نسبة تحقق هذا الأمر في أميركا، فالمهم هو الأرضية القانونية). وتماشيًا مع الأهداف الأساسية للصهيونية، فضلت دولة الاحتلال اليهود على باقي البشر بوعي كامل ومُصمم لتحقيق هذه الغاية.
اليوم، وبعد عقود من وحشية دولة الاحتلال، انتهت المبررات الأخلاقية للدعم غير المشروط من الولايات المُتحدة. الحكومات الإسرائيلية المُتعاقبة وبكل ألوانها، وسّعت انتشر المستوطنات، وحرمت الفلسطينيين من حقوقهم السياسية الشَرعية، وعاملتهم على أنهم مواطنون من درجة ثانية (يقصد الفلسطينيين في الداخل المُحتل)، واستخدمت قوتها العسكرية المتفوقة لقتل وإرهاب سُكان قطاع غزّة والضفة الغربية ولبنان، وبدون أية مُحاسبة أو عقاب. بعد كل هذا، فليس مفاجئًا أن منظمة هيومان رايتس ووتش ومنظمة حقوق الإنسان في دولة الاحتلال بتسليم[3] قد أصدرا مؤخرًا تقريرًا موثَّقًا بعناية يشير إلى أن كثير من سياسات دولة الاحتلال على أنها نظام فصلٍ عنصريّ. أدى الانجراف نحو اليمين في السياسة الداخلية لدولة الاحتلال والدور المتنامي للأحزاب المتطرفة في سياسة دولة الاحتلال إلى إلحاق المزيد من الضرر بصورتها، بما في ذلك أمام العديد من اليهود الأميركيين.

في الماضي، كان بإمكان المرء أن يجادل حيال الخصوصية والقيمة الاستراتيجية التي تمثلها دولة الاحتلال للولايات المتحدة، مع العلم أن الحديث عن هذه القيمة كان مبالغًا فيه في كثيرٍ من الأحيان. فمثلًا، كان دعم دولة الاحتلال خلال الحرب الباردة وسيلة فعّالة لفحص مدى تأثير الاتحاد السوفييتي في الشرق الأوسط، خصوصًا وأن جيش دولة الاحتلال كان من أقوى جيوش المنطقة وأكثرها تفوقًا، حتى أكثر من مصر وسوريا. كما وقدّمت دولة الاحتلال معلومات استخباراتية مُهمة للولايات المُتحدة بين الفينة والأخرى.
لقد انتهت الحرب الباردة منذ أكثر من 30 عامًا، ولكن الدعم غير المشروط لدولة الاحتلال ما يزال مُستمرًا، وصار يسبب لواشنطن مشاكل أكثر مما يحل. لم تفعل دولة الاحتلال أي شيء لمساعدة الولايات المتحدة في حربيها على العراق. وكان على أميركا أن ترسل صواريخ باتريوت إلى دولة الاحتلال خلال حرب الخليج الأولى لتحمي نفسها من هجمات صواريخ سكود[4] العراقية. وحتى لو كانت دولة الاحتلال تستحق الإشادة لقصفها مفاعلًا نوويًا سُوريًا خفيًا في عام 2007، أو لمساعدتها في تطوير ڨايروس ستكسنت[5] والذي أحدث أضرارًا مؤقتة في بعض أجهزة الطرد المركزي الإيرانية، إلا أن قيمتها الاستراتيجية الحالية أقل بكثير مما كانت عليهِ خلال الحرب الباردة. وعلاوة على ذلك، لا يتعين على الولايات المتحدة أن تقدم لدولة الاحتلال دعمًا غير مشروطٍ مقابل نتائج مثل المذكورة أعلاه.
أما في الوضع الحالي، فكلفة العلاقة الوطيدة تزيد من ناحية الولايات المتحدة يومًا بعد يوم. يبدأ نُقاد هذه العلاقة حديثهما دائمًا من أنها تكلف واشنطن أكثر من 3 مليار دولار أميركي في الدعم الاقتصادي والعسكري سنويًا، مع العلم أن دولة الاحتلال الآن واحدة من أغنى دول العالم ويقع فيها معدل الدخل للأفراد في المرتبة الـ 19 عالميًا. ثمة طرق أفضل طبعًا لصرف مثل هذا المبلغ، حتى لو كان هذا المبلغ تافهًا بالنسبة للولايات المتحدة، خصوصًا أن لديها اقتصاد يقدر قيمته بـ 21 تريليون دولار. التكلفة الحقيقية التي نتحدث عنها على إثر هذه العلاقة الوطيدة، هي تكلفة سياسية.
كما شاهدنا في الأسابيع الماضية، أن توفر الولايات المتحدة دعمًا غير مشروطٍ لدولة الاحتلال، يجعل من موقف أميركا صعبًا لتدّعي أنها صاحبة الأرضية الأخلاقية أمام العالم. إدارة بايدن مُتحمسة وتسعى جاهدة لاستعادة وتنظيف سمعة وصُورة الولايات المُتحدة بعد أربع سنوات تحت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب. فهي تريد أن تظهر بمنظر مختلف وواضح جدًا سواء من ناحية الفعل أو القيم، خصوصًا أمام خصومها في روسيا والصين، وذلك لتعيد ترسيخ نفسها كمحور أساسي لنظامٍ قائمٍ على هذه القواعد. ولهذا، أخبر وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكين مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أن الإدارة ستضع «الديمقراطية وحقوق الإنسان في قلب سياستنا الخارجية». لكن عندما تكون الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تستخدم حقها في الڨيتو ضد ثلاثة قرارات منفصلة لمجلس الأمن بشأن وقف إطلاق النار، وحين تقول مرارًا وتكرارًا بأن لدى «إسرائيل حق الدفاع عن نفسها»، وحين تفوض بإرسال صفقة أسلحة إضافية بقيمة 735 مليون دولار لدولة الاحتلال، وتقدم للفلسطينيين خطابًا مفرغًا حول حقهم للعيش بحرية وأمن مع دعم حل الدولتين (حل الدولتين صار خيارًا شبه معدومٍ وقليلٌ جدًا من العلماء والسياسيين يدعمونه)، فإنها تجعل ادّعاءها بالتفوق الأخلاقي أجوَفًا ومنافقًا. ولم يكن من المفاجئ أن تستغل الصين الفرصة في ضرب موقف الولايات المُتحدّة، وقد أشار وزيرة الخارجية الصيني وانغ يي إلى أن الولايات المُتحدة لا يمكن أن تكون وسيطًا مُحايدًا للقضية، وطالب أن تكون الصين هي المضيفة لمحادثات السلام الإسرائيلية-الفلسطينية. من المؤكد أن مطالبته لم تكن جديّة، ولكن لم يكن للصين أن تكون أسوأ من أميركا، خصوصًا بعد ما فعلته واشنطن في العقود الأخيرة.
تكلفة ثابتة أخرى لهذه «العلاقة الحميمية» هي الاستهلاك غير المتناسب لنطاق للسياسة الخارجية الأميركية مع دولة الاحتلال. يواجه بايدن وبلينكين ومستشار الأمن القومي چيك سوليڨان مشاكل أكبر ليقلقوا بشأنها أكثر من تصرفات دولة شرق أوسطية صغيرة (دولة الاحتلال). ومع ذلك، ها هي الولايات المتحدة مرة أخرى، تورط نفسها في أزمة من صنعها إلى حد كبير، وتتطلب اهتمامها وتستغرق وقتًا ثمينًا من إدارتها وتشغلها بعيدًا عن التعامل مع قضايا أكبر مثل تغير المناخ والصين والجائحة وفك الارتباط الأفغاني والانتعاش الاقتصادي ومجموعة من المشاكل الأكثر ثقلًا. إذا كانت للولايات المتحدة علاقة طبيعية مع دولة الاحتلال، فستحظى بالاهتمام الذي تستحقه وليس أكثر.
ثالثًا، يؤدي الدعم غير المشروط لدولة الاحتلال إلى تعقيد جوانب أخرى من دبلوماسية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. مثلًا، سيكون التفاوض على اتفاقية جديدة للتراجع عن إمكانات الأسلحة النووية الإيرانية ووضع حد لها أسهل بكثير إذا لم تواجه الإدارة الأميركية معارضة مستمرة من حكومة نتنياهو ،ناهيك عن المعارضة القاسية للعناصر المتشددة من اللوبي الإسرائيلي هنا في الولايات المتحدة. مرة أخرى، من شأن وجود علاقة طبيعية أكثر مع الدولة الشرق أوسطية الوحيدة التي تمتلك أسلحة نووية بالفعل أن تساعد جهود واشنطن طويلة الأمد للحد من انتشارها في أماكن أخرى.
تُجبر هذه الرغبة لحماية دولة الاحتلال الحكومة الأميركية على إقامة علاقات مع دول شرق أوسطية أخرى بدون أية أهمية استراتيجية وبدون أي قاعدة أخلاقية. فدعم الولايات المتحدة غير المشروط لديكتاتور مصر (وتجاهل الانقلاب العسكري الذي دمر ديمقراطية مصر الوليدة في عام 2011)، الهدف منه جزئيًا الحفاظ على علاقة مصرية هادئة مع دولة الاحتلال ولمعارضة حماس. وأيضًا صارت الولايات المتحدة قادرة على تقبل الانتهاكات المتعددة من المملكة العربية السعودية (خصوصًا في حربها الجوية ضد اليمن، وقتل الصحفي المُعارض جمال خاشقجي)، وذلك مع ازدياد العلاقات الصامتة والمضمرة بين الرياض ودولة الاحتلال.
رابعًا، بعد عقودٍ من الدعم غير المشروط لدولة الاحتلال، فقد واجهت الولايات المُتحدة المخاطر نفسها التي واجهتها في حربها على الإرهاب. فأسامة بن لادن وكثير من القادة المُهمين في القاعدة، كانوا واضحين باتجاه هذه القضية: فدعم الولايات المتحدة لدولة الاحتلال ومعاملة دولة الاحتلال المتوحشة للفلسطينيين كانت إحدى الأسباب التي جعلتهم يقررون مهاجمة العدو صاحب «الذراع الطويلة». قطعًا لم يكن هذا هو السبب الرئيسي لهجمات الحادي عشر من سبتمبر، ولكنه في الوقت نفسه لا يجب على الولايات المتحدة اعتباره سببا صغيرًا. فكما أشار التقرير الرسمي للجنة التحقيق في أحداث 11/9 بشأن خالد الشيخ محمد، والذي وصف في التقرير على أنه «المهندس المسؤول للهجمات»: «حسب روايته، فإن عداء خالد الشيخ محمد تجاه الولايات المتحدة لم ينبع من خبرته كطالب فيها، وإنما لاختلافه الشديد مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة وانحيازها لصالح إسرائيل». لن تختفي مخاطر الإرهاب إذا كانت علاقة الولايات المتحدة طبيعية بدولة الاحتلال، ولكنه سيكون الموقف الأكثر عدالة والأكثر قابلية للدفاع الأخلاقي وسيساعد في التقليل من معاداة الولايات المُتحدة، خصوصًا المواقف التي ساهمت في احتقان التطرف العنيف في العقود الأخيرة.
ترتبط العلاقة الخاصة أيضًا بالمغامرات الكبرى للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بما في ذلك قرار غزو العراق في عام 2003. لم تحلم إسرائيل بهذه الفكرة أبدًا -المحافظون الجدد المؤيدون لإسرائيل في الولايات المتحدة يستحقون هذا الشرف المشكوك فيه-، فقد عارض بعض القادة الإسرائيليين الفكرة في البداية وأرادوا من إدارة چورج دبليو بوش التركيز على إيران بدلاً من ذلك، ولكن بمجرد أن اتخذ الرئيس الأميركي چورج دبليو بوش قرار الإطاحة بالرئيس العراقي آنذاك صدام حسين وأن هذه الحركة ستكون الخطوة الأولى في برنامج أوسع لـ «التحول الإقليمي»، دخل كبار المسؤولين الإسرائيليين -بمن فيهم نتنياهو ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك وشمعون پيريز- على الخط وساعدوا في بيع قرار الحرب للشعب الأميركي وإقناعهم بهِ. كتب باراك وپيريز عددًا من الحجج وظهرا على وسائل الإعلام الأميركية لحشد الدعم للحرب، وذهب نتنياهو إلى الكاپيتول هيل لإعطاء رسالة مماثلة إلى الكونگرس. على الرغم من أن الدراسات الاستقصائية أظهرت أن اليهود الأميركيين يميلون إلى أن يكونوا أقل دعمًا للحرب على العراق من الجمهور الكلي في أميركا، إلا أن لجنة الشؤون العامة الأميركية-الإسرائيلية ومنظمات أخرى في اللوبي الإسرائيلي ألقت بثقلها وراء قرار الحرب أيضًا. العلاقة الخاصة لم تتسبب في اندلاع الحرب قطعًا، لكن العلاقات الوثيقة بين البلدين ساعدت في تمهيد الطريق لها.
العلاقة الخاصة -وجعل شعار التزام الولايات المتحدة دولة الاحتلال بأنه «لا يهتز»- جعلت أيضًا من تأييد المرء لدولة الاحتلال اختبارًا أساسيًا للدخول في الحكومة الأميركية، ومنعت، في الوقت نفسه، عددًا غير قليل من الأميركيين القادرين على المساهمة بمواهبهم وتفانيهم في الحياة العامة من الوصول إلى وظائف يستحقونها. فأن تكون داعمًا بقوة لدولة الاحتلال لا يشكل أمامك عائقًا أمام أي منصبٍ رفيعٍ ترجوه في الحكومة، بل على العكس، فهو ميزة لك. أما إذا كنت منتقدًا بشكل معتدل فهذا يخلق لك مشكلة فورية. وأيضًا لو كنت مؤيدًا معتدلًا لدولة الاحتلال، فقد يعتبر هذا غير كافٍ وقد يعرقل تعيينك، كما حدث عندما اُختير الدبلوماسي المخضرم ومساعد وزير الدفاع الأميركي السابق تشاس فريمان في البداية لرئاسة مجلس المخابرات الوطني[6] في عام 2009، أو يمكن أن يجبر المرشحين على ارتكاب أفعال يندمون عليها أو إنكار الذات والحقيقة. إن قضية كولن كال الأخيرة، والذي حصل ترشيحه لمنصب وكيل وزارة الدفاع لشؤون السياسة بالكاد على موافقة مجلس الشيوخ على الرغم من أوراق اعتماده التي لا تشوبها شائبة، تعد مثالًا آخر على هذه المشكلة، ناهيك عن العديد من الأفراد المؤهلين الذين لم يحظوا حتى بفرصة النظر في تعيينهم لأن الفرق الانتقالية لم تكن ترغب في إحداث أي نوعٍ من الجدل. اسمحوا لي أن أؤكد أن القلق ليس أن هؤلاء الأفراد لم يكونوا وطنيين بما فيه الكفاية، وإنما كان الخوف هو أنهم قد لا يكونون ملتزمين بشكل لا لبس فيه لمساعدة دولة أجنبية (دولة الاحتلال).
يمنع هذا الموقف إدارة الحزبين الديمقراطي والجمهوري من توظيف أفضل المواهب، وتزيد من كذب ونفاق الخطاب العام للولايات المتحدة. يتعلم صانعو السياسات أصحاب الطموح ألّا يعبروا عن حقيقة رأيهم تجاه أية قضايا لها علاقة بدولة الاحتلال، وبدلًا من ذلك، يصرحون بخطابات مألوفة، حتى لو كانوا يؤمنون بعكسها. وعندما يحل خلاف صراع مثل ما حصل قبل أسابيع عندما اندلعت أعمال العنف في غزّة، يتشنج المسؤولون العامون والناطقون الإعلاميون أمام المنصات الإعلامية، محاولين عدم التعبير عن أي شيء قد يضعهم أو يضع مسؤوليهم في مأزق. والخوف الحقيقي ليس في أنهم قد يكذبون، وإنما في قولهم للحقيقة دون قصدٍ منهم (مثلما فشل المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس في شجب واستنكار قتل الأطفال الفلسطينيين أمام الإعلام). كيف يمكن للمرء إجراء مناقشة صادقة حول الإخفاقات المتكررة لسياسة الولايات المُتحدة في الشرق الأوسط عندما تكون العواقب المهنية لتحدي وجهة النظر التقليدية قاتمة وسيئة؟
ولأكون صريحًا، بدأت بعض الثغرات تتفتق في هذه العلاقة الخاصة، ونحن نشهدها اليوم. صار من السهل الآن أن تتحدث عن الموضوع، على الأقل أسهل مما كانت عليهِ، (على افتراض أن المرء لا يسعى لوظيفة في وزارة الخارجية أو الدفاع)، وظهرت شجاعة بعض الأفراد مثل پيتر بينآرت وناثان ثرال، والتي بدأت بردم فجوة الجهل والتي ظلت لفترة طويلة تحيط بهذه القضية. وبعض الداعمين لدولة الاحتلال، غيروا مواقفهم بشكل كبيرٍ لدرجة صاروا يستحقون الثناء عليها. وفقط خلال الأسبوع الماضي، نشرت صحيفة نيو يورك تايمز مقالة تذكر فيها تفاصيل الصراع في طريقةٍ لم تطرح إطلاقًا قبلًا (ليس بما فيه الكفاية، فقد غطت الصحيفة العدوان الأخيرة على الفلسطينيين بطريقة مُنحازة بالكامل للرواية الإسرائيلية، وعرضت بعد انتهاء العدوان الأخير على غزة إعلانًا مدفوعًا يُهاجم عائلة حديد والفنانة دوا ليبا، ولا يحسب لهذه الصحيفة أي من مواقفها). الكليشيهات القديمة حول «حل الدولتين» و «لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها» بدأت تخسر بريقها وقوتها، وأيضًا صرنا نرى بعض الممثلين وأعضاء مجلس الشيوخ قد جعلوا خطابهم وسطيًا عند الحديث عن عدم دولة الاحتلال -مجازيًا على الأقل. ولكن سيبقى السؤال الأهم، متى سيتحول هذا التغيير في الخطاب إلى تغيير حقيقي في سياسة الولايات المتحدة؟

لا تعني الدعوة إلى إنهاء العلاقة الخاصة إلى المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات أو إنهاء كل الدعم الأمريكي، ولكنها دعوة للولايات المتحدة لتكون لها علاقة طبيعية مع دولة الاحتلال، على غرار علاقات واشنطن مع معظم الدول الأخرى. بوجود علاقة طبيعية، ستدعم الولايات المتحدة دولة الاحتلال عندما تتفق مع مصالحها وقيمها وأن تنأى بنفسها عندما تتصرف دولة الاحتلال بطريقة أخرى. لم تضطر الولايات المتحدة لحماية دولة من إدانة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إلا عندما تستحق دولة الاحتلال هذه الحماية بوضوح. ولن يمتنع المسؤولون الأمريكيون عن الانتقاد المباشر والصريح لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي. سيكون السياسيون والمحللون وصناع القرار الأمريكيون أحرارًا في مدح أو انتقاد أفعال دولة الاحتلال- كما يفعلون روتينيًا مع الدول الأخرى- دون خوف من فقدان وظائفهم أو دفنهم في جوقة من التشهير والتشويه ذات الدوافع السياسية.
العلاقة الطبيعية ليست طلاقًا: ستستمر الولايات المتحدة في التجارة مع دولة الاحتلال، وستظل الشركات الأميركية تتعاون مع نظيراتها الإسرائيلية في أي عدد من المشاريع. سيستمر الأمريكيون في زيارة الأراضي المقدسة، وسيواصل الطلاب والأكاديميون من البلدين الدراسة والعمل في جامعات بعضهم البعض. يمكن أن تستمر الحكومتان في تبادل المعلومات الاستخباراتية حول بعض القضايا والتشاور بشكل متكرر حول مجموعة من موضوعات السياسة الخارجية. وسيكون بإمكان الولايات المتحدة أن تقف على أهبة الاستعداد لتقديم المساعدة لدولة الاحتلال إذا كان بقاؤها مهدد بالخطر كما هو الحال بالنسبة لدول أخرى. ستظل واشنطن أيضًا تعارض بشدة معاداة السامية الحقيقية في العالم العربي وفي دول أجنبية أخرى وعند شعبها أيضًا.
يمكن لوجود علاقة طبيعية أن يفيد دولة الاحتلال أيضًا. لفترة طويلة الآن، سمح الدعم الأميركي غير المشروط لدولة الاحتلال باتباع سياسات انقلبت عليها مرارًا وتكرارًا ووضعت مستقبلها على المدى الطويل على المحك. وعلى رأسها المشروع الاستيطاني نفسه والرغبة غير الخفية في إنشاء «إسرائيل الكبرى» التي تضم الضفة الغربية وتحصر الفلسطينيين في أرخبيل من الجيوب المعزولة. ويمكن للمرء أن يضيف إلى القائمة غزو لبنان عام 1982 والذي أنتج حزب الله، والجهود الإسرائيلية السابقة لتعزيز حماس لإضعاف فتح، والهجوم المميت على سفينة الإغاثة لغزة ماڨي مرمرة في مايو 2010، والحرب الجوية الوحشية ضد لبنان في عام 2006 والتي جعلت حزب الله أكثر شعبية، والاعتداءات السابقة على غزة في أعوام 2008 و2009 و2012 و2014. كما ساعد عدم رغبة الولايات المتحدة في جعل المساعدات مشروطة لدولة الاحتلال في حرمان الفلسطينيين من إنشائهم لدولتهم الموعودة وهو ما قتل عملية أوسلو للسلام، وما أدى إلى تبديد أفضل فرصة لحل الدولتين الحقيقي.
لو أن علاقة الولايات المتحدة بدولة الاحتلال كانت علاقة طبيعية، بحيث يكون دعمها مشروطًا وليس تلقائيًا، فلربما أجبر ذلك الإسرائيليين على إعادة النظر في مسارهم الحالي ولربما بذلوا جهدًا حقيقيًا لتحقيق سلام حقيقي ودائم. سيتعين عليهم تحديدًا إعادة التفكير في الاعتقاد بأن «الفلسطينيين سوف يختفون ببساطة» والبدء في التفكير في حلولٍ من شأنها ضمان الحقوق السياسية لليهود والعرب على حد سواء. النهج القائم والمبني على الحقوق ليس الدواء الشافي وسيواجه العديد من العقبات، لكنه سيكون متسقًا مع القيم المعلنة للولايات المتحدة وسيوفر أملًا في مستقبلٍ يعم فيه السلام، أكثر مما تفعله دولة الاحتلال والولايات المتحدة اليوم. والأهم من ذلك كله، أنه سيتعين على دولة الاحتلال أن تبدأ في تفكيك نظام الفصل العنصري الذي أوجدته على مدى العقود العديدة الماضية لأنه حتى الولايات المتحدة ستجده صعبًا ويسبب الكثير من المشاكل لها مع مرور الوقت.
هل أتوقع أن التغييرات الموضحة أعلاه ستطبق في أي وقت قريب؟ لا، على الرغم من أن وجود علاقة طبيعية مع دولة الاحتلال -على غرار العلاقات التي تربط الولايات المتحدة مع جميع دول العالم تقريبًا- لا ينبغي أن يكون فكرة مثيرة للجدل، إلا أنه لا تزال ثمة مجموعات مصالح قوية تدافع عن العلاقة الخاصة والكثير من السياسيين عالقون مع وجهة نظر عفا عليها الزمن. ولكن قد يكون التغيير أكثر احتمالًا ووشيكًا أكثر مما قد يعتقد المرء، وهذا هو السبب في أن المدافعين عن الوضع الراهن يسارعون إلى تشويه وتهميش أي شخص يقترح بدائل. يمكنني أن أذكر الآن أمثلة عدة، حيث كان التدخين على متن الطائرات مسموحًا وعندما كان زواج المثليين أمرًا لا يمكن تصوره وعندما حكمت موسكو أوروبا الشرقية بقبضة من حديد وعندما اعتقد بعض الناس أنه من الغريب أن ترى النساء أو الأشخاص الملونون في غرف الاجتماعات أو في الكليات الجامعية أو في المناصب العامة. بمجرد أن تصبح المناقشة العامة لموضوع ما أكثر انفتاحًا وأكثر صدقًا، يمكن أن تتغير المواقف «التي عفا عليها الزمن» بسرعة مدهشة وما كان يومًا ما لا يمكن تصوره يمكن أن يصبح ممكنًا بل وحتى طبيعيًا.
(مُلاحظة ختامية من المُترجم: للتأكيد هذه وجهة نظر الكاتب التي لا أتفق معها، فيقع تأييدي دائمًا إلى جانب مقاطعة دولة الاحتلال بالكامل، ومحاصرتها اقتصاديًا ومحاسبتها على جرائم الحرب وليس عبر وجود علاقة طبيعية، وقد نقلت النص إلى العربية كما أشرت في مقدمة المقالة، لتبيين أن الرأي العام العالمي والأميركي يتغير، ولهذا الرأي العام تأثير مستقبلي، خصوصًا عبر الانتخابات والتصويت).
المصدر: الفورين بوليسي
[1] يعمد الأميركان والأوربيين ومن بعدهم الصهاينة إلى استخدام مصطلح العرب للإشارة إلى الشعب الفلسطيني (السكان الأصليون)، وذلك لتجريدهم من فلسطينيتهم، وليتماشى الأمر مع دعواهم بأن يذهبوا، أي أهل فلسطين، للسكن في أي دولة عربية أخرى. يجب علينا أن نكون حذرين في استخدام المفردات، وأن نشير إلى أنفسنا على أننا فلسطينيون وأن نشير إلى أهل الداخل المحتل على أنهم فلسطينيو الداخل، وليس «عرب إسرائيل»، فهو ليسوا تبعًا لدولة الاحتلال لا من قريب ولا من بعيد.
[2] جدير بالذكر أن اختراع واستخدام مصطلح «الشرق الأوسط» ليس بريئًا، فقد صُكّ للإشارة إلى المنطقة بما فيها دولة الاحتلال، لأن مصطلح العالم العربي أو الدول الناطقة بالعربية أو الدول الإسلامية أو أي من المُسميات الأصلية للمنطقة لم تكن ولن تشمل دولة الاحتلال. كان هذا هو الهدف الغربي من اختراع هكذا مصطلح. هذا الناحية الأولى، أما من الناحية الثانية، فإن التسمية بحد ذاتها استعمارية، لأنها تصفنا شرقًا أوسطًا، ولكن لو سألنا أنفسنا، شرق من؟ فسنجد أننا شرق أوروبا وأميركا. وعليهِ، علينا أن نكون حذرين في المصطلحات والمفاهيم التي نستخدمها وأن نشير إلى أنفسنا وكأننا المركز، ولسنا هامشًا يتبع. قد يبدو الأمر تافهًا، ولكن بداية التحرر، تكون من التحرر اللغوي. أخيرًا، دولة الاحتلال لم تكن يومًا ولن تكون دولة ديمقراطية، فهي دولة دينية يفتخر رؤساؤها بأنها دولة فقط لليهود ولا مكان لغير اليهود فيها.
[3] مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلّة.
[4] اسم لسلسلة من الصواريخ البالستية التكتيكية التي طوّرها الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة وصدّرها بشكل واسع إلى دول أخرى لا سيما العالم الثالث. طور العراق إبان حكم صدام حسين صاروخ سكود بحيث قللت حمولته من أجل منحه مدى أبعد (سكود – ب، وسكود طويل المدى ذي حمولة أقل، صاروخ الحسين، وصاروخ العباس الذي يُعد أقلهم حمولة وأطولهم مدى) وتتميز جميع صواريخ سكود العراقية -ماعدا العباس- بإمكان إطلاقها من منصات متحركة.
[5] دودة حاسوبية خبيثة تصيب نظام الويندوز، بدأ تطويرها منذ عام 2005 على يد الولايات المتحدة ودولة الاحتلال واكتشفت بالصدفة لأول مرة في عام حزيران\ يونيو 2010 على برنامج «ڨايروس بلوك أدا» (بالإنجليزية: VirusBlockAda) وهي شركة أمن مقرها في روسيا البيضاء، استهدف الڨايروس أنظمة التحكم الإشرافي وتحصيل البيانات ويعتقد أنه المسؤول عن الأضرار الوخيمة لبرنامج إيران النووي. وعلى الرغم من أن أيًا من الدولتين لم يعترفا صراحةً بالمسؤولية، لكن يُعتقد أن الدودة هي سلاح إلكتروني مشترك الصنع بينهما.
[6] مجلس المخابرات الوطني أو مجلس الاستخبارات الوطني (NIC)، تأسس في عام 1979، ويقدم تقاريره إلى مدير مجلس المخابرات الوطني، ويربط بين مجتمع الاستخبارات الأمريكية وصانعي السياسات في الولايات المتحدة.