تأملات في المكان | من غزة إلى الدَّوحة (1)

كنتُ في غزة. قبل أعوامٍ خمسة كنت في غُزة. قضيتُ عامي الأخير فيها متصالحًا معها. توقفت عن البحث عن مخرجٍ أو عن مهربٍ. قررتُ أني سأبقى فيها إلى أن يأتيني خبر خروجٍ يقين. وفي تلك اللحظة، اتسع المكان، واتسعت معه قدرتي على إقامة علاقةٍ معهِ، مع زواياه، مع ناسهِ. أخذت أعمل في وظيفةٍ لأول مرة في حياتي. اشتركت في نوادٍ مُختلفة. عملتُ عبر الإنترنت. ترجمت روايةً. تمكنت من الخوض في علاقة عاطفيةٍ. لم أفكر في حدود المؤقت والدائم. فكَّرتُ بأني موجودٌ في تلك اللحظة، وأن عليّ أن أعيشها.

كل ما قبل ذلك العام غير واضحٍ. دخلتُ في دوامات كثيرة. خرجت من إطار الجماعةِ وجمعيتها، إلى الفردية وفرديتها. قرأت لسيوران، ولينتشة، وسورين كيركغارد. اطلعت على أعمال كونديرا. غرقتُ في فكر وأدب الحداثة. وتحولت تحولا كافكوياً. ابتعدت عن العائلة. تفككت. تشرذمتُ. أعلنت الحرب على القبيلة. ولكني اكتشفت في وقت غير متأخر، حسب تصوري، بأني كنت أعلنت حربًا على نفسي. خسرتُ فيها انتمائي. وخسرتُ فيها علاقتي مع ما كان جزءًا أساسيًا من تكويني. أن يخوض المرء حربًا على ماضيه، أو حربًا على مادةٍ كانت عاملاً تكوينيًا فيه، تعني أن يخوض المرء حربًا ضد نفسهِ. أن يرفع السيوف، ويكتب الخطابات ضد خصمٍ مُتخيل. يعتقد فيها أنه في جولة لتحرير العالم، ولكن العالم لا يراه. اغتربت عن نفسي. ابتعدتُ كثيرًا عمّا وعمّن حولي. بقيتُ في غرفةٍ في الطابق الثاني لبيتنا. ألحظ العالم وكأنه خالٍ من الألوان. كل شيء مؤقَّت. عقل مُنهك، وقلبٌ مُستنزف.

متابعة قراءة “تأملات في المكان | من غزة إلى الدَّوحة (1)”