أن تكون العودة نبوءة

قبل أشهرٍ، وقبل سفري إلى جُورجيا، كنت أنوي زيارة غزة، لرؤية أهلي وأصدقائي والمكان لأول مرة منذ سنوات ثلاثة، ولكن لم يسعفني الوقت ولا القدر في تلك الزيارة، إلا أن بعض الأصدقاء من الدّوحة توجهوا إلى القطاع، وأرسلت معهم بعض الأشياء لعائلتي، وتمكنوا من زيارتهم في عيد الأضحى.

كتبتُ في تلك الفترة نصاً (نهاية يوليو)، ولم أنشره وقتها، وأضعه بين أيديكم الآن.

متابعة قراءة “أن تكون العودة نبوءة”

مقالة لن تُكملَ قراءتها | سلسلة النباهة في عصر التفاهة

مُقدّمة المُترجم:

قد يسأل أحدهم: «ما الضرر من أن تعرف شركات التكنولوجيا تفضيلاتي وأن تعطيني إعلانات مُخصصة لي؟»، ولكن لو توقف الأمر على الإعلانات، لكان هينًا، إذ تتحكم شركات التقنية بكل ما تتطلع عليهِ من منشورات وصور وأخبار، فهي تراقب تحركاتك عبر الإنترنت باستخدام الملفات تعريف الارتباط (cookies)، وتتبع تفضيلاتك السياسية والإعلامية والأدبية وحتى الإباحية منها، وتُصمم لك تجربة تعمل على دفعك نحو هذه التفضيلات فقط، دون غيرها، وهو ما يجعلك تعيش في فقاعتك مهما كانت، فتزيد من تطرف من المتطرفين ومن انقسام المنقسمين وانعزال الانعزاليين، وهو ما دفع الناس للعيش فيما يعرف بالغرف الصدوية Echo Chambers، بحيث لا يرون ولا يسمعون إلى ارتداد أفكارهم، فيظنون أن العالم ملكهم، ولا يرون الاختلاف، ولا يستفيدون من التنوع الموجود.

ولا يتوقف الأمر هُنا، بل توظف شركات التكنولوجيا مثل فيسبوك وغوغل وتويتر وشبيهاتها أقوى خبراء الخوارزميات والبرمجة وعلم النفس لتجد نقاط ضعف البشر وطرق تقويض انتباههم وإخضاعه لتطبيقاتهم لتضمن قضاء الناس لأكبر وقتٍ ممكن عليها، فكلما قضيتَ وقتًا أكثر، ربحت هذه الشركات أكثر، وهم يستغلون بذلك أذكى العقول في ترويض البشر والتلاعب فيهم، وكما يستطيع الإنسان العادي التحكم في بعض الحيوانات وأن يقودها من اتساع الحقلِ إلى ضيق الحظيرة، بحكم تفوقه عقليًا عليها، تعمل هذه الشركات على المبدأ نفسهِ، فهي تقود البشر قطعانًا من اتساع العالم إلى ضيق الهاتف المحمول، فلم تعد مواقع التواصل الاجتماعي تحقق غايتها في التواصل الاجتماعي بقدر ما هي أدوات تضييعٍ للوقت (في غالب الأحيان)، بل وثقب أسود لإهدار قدرات وطاقات البشر حول العالم وتدمير وعيهم وقدرتهم على الفعل والحركة على أرض الواقع.

متابعة قراءة “مقالة لن تُكملَ قراءتها | سلسلة النباهة في عصر التفاهة”

قصة: كيس الذكريات

طُردت قبل فترة من الوظيفة رقم 32، وكان السبب: عدم اهتمامي بالعمل. العمل يضجرني. لا شيء يُحفزّني. قررت بعدها أن أجوب العالم بحثًا عن قصص. صرتُ أُصاب بالنشوة عند سماع قصص وتجارب الآخرين. بي رغبة عارمة للسؤال عن تجارب الناس وحياتهم، ولا أتحدث عن خصوصياتهم، وإنما ما يعايشونه. جُبت العالمَ بحثًا عن تلك القصّة. القصة التي تتفوق على أية قصة أخرى. قبل شهرين، شددت رحالي، وذهبتُ من فيتنام في طيارة مُباشرة إلى القاهِرة. أقنعت ناشري بشق الأنفس أن يموّل رحلتي، وأخبرته عن خيطٍ قصةٍ تستحق أن تُكتب. وصلتُ إلى هناك، واستأجرتُ غرفة فندقٍ في شارع طلعت حرب. فندق اللوتس. أخبرني عنه صديق مصريّ قبل عشرين عامًا. كان متواضعًا، فلستُ أحب البذخ أبدًا. اتصلتُ بالعائلة، وأخبرتهم بقدومي إليهم في عصر اليوم التالي. ردوا عليّ بالإيجاب، وأنهم سعداء بزيارتي.

كذبتُ على ناشري طبعًا، فإلى جانب رغبتي في كتابة رواية عن القصة أو سكربت فيلم، إلا أن الذاكرة البشرية والعقل البشري يدهشانني جدًا في طريقة عملهما غير المتوقعة. أحب أن أسمع من أناس حاربوا الذاكرة وحاربتهم.

متابعة قراءة “قصة: كيس الذكريات”

من سرق منك انتباهك؟ | سلسلة النباهة في عصر التّفاهة

نحن بحاجة إلى استعادة عقولنا بينما يمكننا إنقاذها، إذ تدمر وسائل التواصل الاجتماعي والعديد من جوانب الحياة الحديثة قدرتنا على التركيز.

تشكل لدى آدم (الابن الروحي لكاتب المقالة أو الابن بالمعمودية في حالات التدين المسيحي) عندما كان في التاسعة من عمره هوس قصير ومكثف وغريب بإلڨيس بريسلي، وقد أخذ يؤدّي أغنية Jailhouse Rock بأعلى صوته مع تحريكه لوسطه كما كان يُحركه إلڨيس. نظر إليَّ ذات يوم بجدّية بينما كنت أجهزه للنوم في فراشه، وسألني: «يوهان، هل ستأخذني إلى گرايسلاند[1] يومًا ما؟» وافقت دون أدنى تفكير في السؤال. ولم أفكر في الأمر إلا بعد فوات الأوان..

ضاع آدم مني بعد عشر سنوات، وكان قد ترك المدرسة في سنّ الخامسة عشرة، واعتاد قضاء معظم ساعات يقظته تقريبًا متناوبًا بين الشاشات مشدوهًا ومتنقلًا بين اليوتيوب والواتساب والمواد الإباحية (غيَّرتُ اسمه وبعض التفاصيل الصغيرة للحفاظ على خصوصيته). بدا وكأنه يتحرك بسرعة سناب شات، ولم يعد أي شيء يجذبه كما كان، وخلال العقد الذي أصبح فيه آدم رجلاً، حدث هذا التمزّق البين-ذاتي مع الكثيرين منا. كانت قدرتنا على إيلاء الأمور الانتباه متصدعة ومنهارة. بلغت الأربعين من عمري للتو، وفي أي مكان أجتمع فيه مع أبناء جيلي، نأسف على فقدنا لمقدرتنا على التركيز. ما زلت أقرأ الكثير من الكتب، ولكن مع مرور كل عام، قدرتي على التركيز والقراءة صارت تشبه درجًا كهربائيًا يتجه إلى الأسفل. ثم في إحدى الأمسيات وبينما كنَّا مستلقين على أريكتي وكل منا يحدق في شاشاتنا الصارخة بلا توقف، نظرت إلى آدم وشعرت بفزع شديد؛ قلت بهدوء: «آدم، لنذهب إلى گرايسلاند»، وذكرته بالوعد الذي قطعته على نفسي. استطعت أن أرى أن فكرة كسر هذا الروتين المخدّر أيقظت فيه أمرًا، لكنني أخبرته بوجود شرطٍ واحدٍ عليه الالتزام به إذا ذهبنا. ينبغي له أن يغلق هاتفه في أثناء خروجنا، وأقسم أنَّه سيغلقه.

متابعة قراءة “من سرق منك انتباهك؟ | سلسلة النباهة في عصر التّفاهة”

طُغيان الوقت

في ظهيرة يومٍ غائم ورطب في الخامس عشر من فبراير عام 1894، مشى الفرنسي مارشال بوردين إلى حديقة گرينتش في شرق لندن. كان للشاب الفرنسي شعر داكن وناعم وممشط إلى الخلف وشارب عريض.  جال الشاب طرقات الحديقة الملتوية إلى أن وصل إلى المرصد الملكي، والذي كان قد بُني قبل عشر سنوات بوصفهِ مركزًا رمزيًا وعلميًا لوقت الساعة القياسي على مستوى العالم (توقيت گرينتش) وكذلك رمز للإمبراطورية البريطانية. حمل بوردين في يده اليسرى قنبلة: حقيبة ورقية بنية تحوي في داخلها عبوة معدنية مُعبأة بالمتفجرات. ومع اقترابهِ من المرصد، جهز القنبلة بزجاجة من حمض الكبريتيك، ولكن وعند وقوفه مواجهًا للمرصد، انفجرت القنبلة في يديه.

متابعة قراءة “طُغيان الوقت”

فَانُون

فَانُون[1]

كتابة: توبياس وولف. كاتب قصة قصيرة أميركي وكاتب مذكرات وروائي، وهو معروف بمذكراته حياة هذا الصبي (1989) وفي جيش فرعون (1994). وقد كتب مجموعتين قصصيتين قصيرتين، بما في ذلك (The Barracks Thief (1984، والتي فازت بجائزة PEN/Faulkner للأدب.

ترجمة أنس سمحان


نادى مُحرر صحيفة «ذا مترو» عليّ بالاسم عبر غرفة الأخبار وأومأ لي. عندما وصلت إلى غرفتهِ، وجدته جالسًا خلف المكتب، وإلى جانبهِ رجل وامرأة. بدا الرجل مستفزًا وهو واقف على قدميهِ، بينما جلست المرأة في كرسيها مترقبة بوجهها النحيل وممسكة حزام حقيبتها بكلتا يديها. كان لون بدلتها متطابقًا مع لون شعرها الرمادي المزرق. بدت متأهبة مثل جندي. أما الرجل، فكان قصيرًا وممتلئًا تمامًا. أعطته الأوعية الدموية البارزة في خديهِ منظر الرجل المرح، ولكن هذه المنظر اختفى تمامًا مع ابتسامته.

«لم أُرِد أن أفضحك،» ثم نظر إلى زوجته وقال، «ولكن رأينا أن عليك أن تعرف».

«طبعًا علي أن أعرف،» قال محرر الصحيفة موجهًا الكلام ناحيتي «أعرّفك على السيد گيفنز. السيد رونالد گيفنز. هل تذكر الاسم؟»

«ليس تمامًا».

«دعني أعطيك تلميحًا. السيد گيفنز ليس ميتًا».

«حسنٌ»، قلت له، «لقد فهمت».

متابعة قراءة “فَانُون”

المدينة الوحيدة: مغامرات في فن الوحدة

نمر كلنا في لحظاتٍ نشعر فيها بوحدة تامّة، وحدة قاتلة، كأننا سلحفاء صغيرة في واجهة مدٍ عظيم، وهذا الشعور يتضخم في داخل المدينة، خصوصًا لشخصٍ مثلي عاش أغلب حياته في قرية زراعية صغيرة هادئة، ولم يعهد سرعة الحياة كما يعهدها الآن. ومثل كاتبة المقالة، حاولت أن أجد عزائي فيما أشعر به عبر القراءة لقديسي الوحدة، عبر القراءة لپول أوستر مرة أخرى وروايته اختراع العزلة، أن اقرأ لهمنغواي وإدغار آلن بو، أن أقرأ القصص والمقالات، علّي أجد فيها ترياقًا يعينني على عدّ الأيام، وللمفارقة، كانت الترياق في الترجمة، وصحيح أنه ليس إكسيرًا يشفي، إلا أنه يعالج، ويمنحني العزاء للاستمرار وأنا سعيدُ إلى حدٍ ما. أترككم مع هذه المقالة من ترجمتي والتي تتحدث عن فن أن تكون وحيدًا.

متابعة قراءة “المدينة الوحيدة: مغامرات في فن الوحدة”

انتفاضة التيك توك أو كيف تمكّن الفلسطينيون من طرح سرديتهم؟

مُلاحظة من المُترجم: لأن ترجمة هذه المقالة سُتنشر على مدونتي وليس في أي من المواقع أو المجلات الأخرى، ولأن نشرها سيكون حرًا، وغير مرتبطٍ بمؤسسة أو جسمٍ ما، فقد آليت أن تكون الترجمة بتصرّف.  أي ذكر لدولة الاحتلال باسمها سيكون بين «بين مزدوجين». وسأعمد أيضًا إلى إضافة مُلاحظات خاصّة مني لتطوير المادّة وستكون مداخلاتي دائمًا بين أقواس أو في الهوامش السفلية من المقالة.

في العدوان الأخير على غزّة، وقبله في الحملة الإعلامية التي انطلقت من الشيخ جراح ونحو العالم (والتي ما زالت مُستمرة حتى الآن) تمكن الفلسطينيون من توحيد خطابهم الإعلامي ضد دولة الاستعمار الاستيطاني في حالة نادرة أثبتت أهمية انسجام السرديات، ومخاطبة الرأي العام العالمي (الناس لا الحكومات) بنبرة واضحة وملائمة، وأيضًا كان الفلسطينيون في الإعلام يتحدثون بنبرة صاحب الحق لا بنبرة الضحية، أثّر هذا على استقبال رسائل الاضطهاد والقمع وخلق نتائج كثيرة وأفشل جهود الهسبرة الصهيونية والعاملة منذ عشرات العقود على إخفاء الصوت الفلسطيني في المنصات الدولية.

متابعة قراءة “انتفاضة التيك توك أو كيف تمكّن الفلسطينيون من طرح سرديتهم؟”

وَن بيس: الأنمي في مواجهة العالم

«ون بيس» هو سلسلة مانغا يابانية من رسم وكتابة إيتشيرو أودا، بدأ نشرها كمجلة في عام 1997، وجمّعت حتى الآن في 90 كتاباً (مُجلد مانغا). تتبع القصة مغامرات مونكي دي لوفي (الذي أكل فاكهة الشيطان والتي أكسبته قدرة تمدد جسمه مثل المطاط) ومغامرات طاقم قراصنته (قراصنة قبعة القش) واستكشافهم للغراند لاين بحثًا عن كنز الون بيس. تحولت المانغا إلى مسلسل أنمي بدأ عرضه في اليابان في عام 1999، وما زال عرضه مُستمرًا حتى هذا اليوم. صُنّفت مانغا “ون بيس” على أنها المانغا الأكثر بيعًا في التاريخ، حيث حققت مبيعات وصلت لـ440 مليون نُسخة حتى شهر مايو/ أيار 2018. وفي عام 2017، أصبحت سلسلة “ون بيس” المانغا الأكثر بيعًا للعام العاشر على التوالي. وأعلن الموقع الرسمي لمجلة مانغا ون بيس الخاص بأودا أن المانغا قد سجلت رقما قياسيًا في موسوعة غينيس للأرقام القياسية: «أكثر نسخ منشورة لنفس سلسلة الكتب المصورة لمؤلف واحد».

متابعة قراءة “وَن بيس: الأنمي في مواجهة العالم”

«فتور» الجائحة: حالة الإعياء من الإغلاق

هذه المقالة مُترجمة بتصرّف عن اللغة الإنجليزية لكاتبها آدم غرانت والذي يتحدث أحيانًا بصوتهِ، شارحًا الحالة من وجهة نظر شخصية. (في بعض الحالات ستكون ثمة مداخلات منّي ولكنها ستكون بين أقواس دائمًا).

آدم غرانت، مؤلف وعالم نفس أميركي، ويعمل حاليًا أستاذًا في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا مُتخصصًا في علم النفس التنظيمي. حصل غرانت على منصبه الأكاديمي في عمر الثامنة والعشرين، وكان وقتها أصغر أستاذ في الجامعة.


فتور الجائحة

لم أكن قادرًا في البداية على ملاحظة الأعراض التي كنا نعاني منها جميعًا. ذكر لي بعض الأصدقاء أن لديهم مشاكلًا في التركيز. وأشار بعض الزملاء أنه وعلى الرغم من أخبار إنتاج اللقاح، إلا أن أيًا منهم لم يكن متحمسًا لعام 2021. سمعت أخبارًا أن فتاة جلست لتعيد مشاهدة فيلم «ثورة وطنية»، والذي تحفظه الفتاة عن ظهر قلب. أما أنا، فبدلًا من الاستيقاظ من النوم الساعة السادسة صباحًا، استمريّت في الاستلقاء في سريري حتى الساعة السابعة، وأنا ألعب على هاتفي المحمول لعبة «Words With Friends».

متابعة قراءة “«فتور» الجائحة: حالة الإعياء من الإغلاق”

جسدي قفص – نص

نصٌ من 18 يناير/كانون الثاني 2021.

بقدر سوء حظّي في اختياري لمن حولي، إلا أني أكاد أكون الأكثر حظًّا بأصدقائي الذين ربطتني معاهم تجارب مشابهة عشناها في سياقات مُختلفة، ولم نكن ندري أننا عشناها، إلا عندما اقتربنا من بعضنا دون أن ندري السبب. نعم، الكلمة هي محظوظ. لي أصدقاءٌ لم أرهم يومًا، ولكني أتجه إليهم عزاءً وفرحًا، حُزنًا وشوقًا، فِكرًا وقلبًا، نتحدّث في العام مرةً أو مرتين، ونتبادل الرسائل الطَويلة عبر البريد الإلكتروني. سمها صداقة حقيقية أو أدبية إن شئتَ، لن نختلف كثيرًا على المُسميّات.
كنتُ أتحدث وزياد التغلبي، صديقي السُوري الذي عرفته عبر الفيسبوك قبل سنوات، مُحادثة فيديو. بدأناها بالاطمئنان على بعضنا والسؤال عن آخر الأخبار والأفكار والحياة والعمل والعلاقات. تحدثنا عن الرسائل فيما بيننا، وعن انشغالنا الحاد عن بعضنا. في غمرةِ حوارنا، بدأت الحديث شخصيًا عن محاولة البقاء -جيدًا- وعن الاستمرار دون التحول إلى وحش قاتل. عن الحاجة إلى الكتابة. عن الحاجة إلى التقمص الوجداني empathy، وعن الشعور الفائض بالآخر أحيانًا أكثر من الذات. إلى أن وصلتُ إلى مرحلةٍ في الشرح، لم أكن قبل قادرًا على التلفظ بها أو الكتابة عنها. وهي المرحلة التي يخذلك فيها جسدكَ. مررتُ بهذا الخذلان مُسبقًا قبل أربعة أعوام، وعايشته مؤخرًا في شهري أكتوبر ونوفمبر. في تلك اللحظة التي تشعر فيها أنك تريد فِعل كل شيء، أن تخرج من عقلك حتّى من فرط الطاقة، ولكن وفي الوقتِ نفسهِ، تشعرُ أن جسدك يقاومك. جسدك الفاني، مُتعبٌ، أو يُتعبك. جسدك المُبتئس. يصحو صباحًا قبل أن يتشبع نومًا، وينام متأخرًا رغم إنهاكه. دماغك المُهترئة عملًا ولفًا، إلا أنها لا تتوقف عن التفكير البائس والباعث على الابتئاس. تجد طاقتك تموت في محاولة إنعاش الجسد. يخطر على بالك كتابة نصٍ، والعتبة في بالك جاهزة، إلا أن الرأس والجسد لا يساعدان. تريد أن تزور أصدقاءك وأن تخرج من بيتك، ولكن الجسد يخذلك في كرهه للتحرك. تُريد العوم في الماء، ولكن جسدك لا يتوقف عن التشنج. ضغطٌ من الأعلى، وضغطٌ من الأسفل، كأنك قد نزلت آلاف الفراسخ في أعماق المحيط. جسدك المُهترئ يكاد يتفجر، وطاقتك تذوي. يخذلك الجسد، يضمر الجسد، يتعب العقل، تموت النفسَ فيكَ، ولكنك تقاوم. وتقاوم. إلى أن تستعيد جسدك ثانيةً، ولكنه سُرعانَ ما يخذلك مُجددًا. تريد أن تكون حُرًّا منه. أقول لزياد كل هذا، فيذكّرني بأغنية من مُسلسل هاوس، «جسدي قفص»ٌ، يحبسني، يُقيدني، يلزمني بالأكل والشرب والنومِ، وأنا الذي أشعر أن حياتي قصيرة للغاية، وأنّ لدي الكثير من الأمور التي لم أجربها بعد. لم أكتب كل القصص بداخلي. ثمة نصٌ عالق في رأسي منذ أكثر من تسعِ سنوات. أتذكر عتبته. أعرف فكرته. يقفز إليّ في كُل لحظةٍ، ولكني لا أقوى على كتابتهِ. أكتب بحثًا، وأكتب عملًا، ولكني حينما آتي لأكتب نصًّا لي، ترتفع يافطة في داخلي، «انتهى الدوام». صار الجسد مؤسسة بيروقراطية مُترهلة في عصر الاستهلاك، ومحكوم بالحياة فيها. يبدأ عمله صباحًا، وينتهي عصرًا، ولا ساعات عملٍ غيرها. إذا صحوت متأخرًا، فقدت ساعات العمل، وعليك المحاولة في يوم آخر. فعلًا، جسدي قفصٌ، يأسرني. قفصٌ، لستُ أكرهه، ولكني أكره خذلانه المُتواصل لي. جسدٌ يملكني، ولستُ أملكه، وهنا مكمن الكابوس. جزءٌ منكَ، لا تقوى على التحكم فيهِ. يخذلك. يُفرحكَ. يتعبك. وعندما يموت، تموت، ولا تعرف كيف. أهو الوعاء؟ أهو الوجود؟ أهو التجسد؟ ما هو؟ في النهاية أتذكر نصًّا كتبته في السنوات الغابرة، لسنا إلا كومة ذكريات تمشي على الأرض.

في هذه اللقطة فقط، يعني أن تتصالح مع جنونك.
من أجمل المشاهد في كامل مسلسل د. هاوس.
House S7E16

اعتبرها رسالة أخرى يا زياد، وأنا الذي لأكتب هذا النص، لعنتُ نفسي الآن بليل طويلٍ دون نوم. لأني وكما قلتُ، يخذلني جسدي، إذ وكلما كتبتُ نصًّا، أصابتني حالة من فرط نشاطٍ لا يمكنني السيطرة عليه، ولا يمكنني حتى دفعه للنوم، فيبقيني مُنهكًا، مُتعبًا، نعسًا، غير قادرٍ على النومِ، وفي الآن نفسهِ، دون أية فائدة.
صديقي زياد، جسدي قفصٌ، ولكني لستُ عصفورًا.. حين يفتح الباب، لا أطير، وإنما أموت. وحسب هذه الصُورة، وكثير من الصُور المبتذلة، سيكون الخروج من القفص، حرية، ولكني لستُ متأكدًا، إن كان راحة.

نهاية العالم… كيف سنغنّي الأفول الكبير؟

في كتابهِ “الأسلوب المُتأخّر”، يتحدث إدوارد سعيد عن المرحلة المتأخرة من حياة بعض العازفين الموسيقيين والمؤلفين، لافتًا إلى أن وعي الشخص بنهايته الحتمية/موته، يؤثر على كتابتهِ أو أسلوبه، وهو سبب تسمية الكتاب.
من وجهة نظر سعيد، فإن إدراك الموت، إما عبر المرض أو التقدّم في السن، يدفع بالشخص إلى سيناريوهات عدّة، إما استقبال هذا الإدراك بالجنون والانطلاق نحوه دونما اكتراث، أو التروي وأخذ الحياة خطوة بخطوة بما يتحقق في إنجاز هذا الشخص، ليأخذ منحىً آخر تجاه بعض المواقف التي كان يُظنّ بأنه لن يعيد التفكير فيها.

متابعة قراءة “نهاية العالم… كيف سنغنّي الأفول الكبير؟”

مسلسل “فتيان”: سردية اليسار الصهيوني

عرضت شبكة HBO الأميركية مسلسل Our Boys القصير، أو بالعربية “فتيان”. المسلسل إنتاج مشترك بين الشبكة المعدة لمسلسل “تشرنوبل”، واستديوهات كيشيت. العمل من صناعة الإسرائيليين هاغاي ليفاي وجوزيف سيدار، والفلسطيني توفيق أبو وائل.
يبدأ المسلسل بالحديث عن قتل ثلاثة مستوطنين (إيال يفراح وغيلعاد شاعر نفتالي فرينكيل)، في شهر يونيو/ حزيران 2014، ولكنه يُكرِّس أقل من نصف حلقة لهم، لينتقل إلى الحديث بالتفصيل عن خطفِ وقتل الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير في عشر حلقات. في التعريف القصير المنشور للمسلسل ورد أنه “مبنيٌ على الأحداث الحقيقيّة التي أدّت إلى اندلاع الحرب في غزة 2014”. ولكن نجد أن التركيز على العلاقة بين الجريمتين ضعيف، ولا يظهر إلا بخبر تلفزيوني: “قصف حماس لمستوطنات غلاف غزّة كان ردًّا على الجريمة النكراء لخطف وضرب وحرق الطفل الفلسطينيّ”.

على خلاف باقي المسلسلات إسرائيلية الإنتاج، يحاول “فتيان” تقديم سَردية تختلف عن السائِد، إذ يفرد نصف حلقة عن قتل المستوطنين، وباقي العمل يُركِّز على أبو خضير، وأثر الجريمة على الصف الفلسطيني عامةً، وعائلته خاصةً، فصُورت الأم المكروبة قبل الجريمة وبعدها، وكيف انقلبت حياتها رأسًا على عقب. وصُوّر الأب والأخ وباقي العائلة عن قرب في حياتهم اليومية وكيف تلقوا الخبر وتعاملوا معه. كُل هذا كان بأداء لافت من الكادر التمثيلي، حيث أدّى المُمثل الفلسطيني جوني عربيد دور والد محمد، والمُمثلة رُبى بلال دور والدته.
التمثيل وحده لا يكفي، فكانت الكتابة للعمل من طرفين (فلسطيني وإسرائيلي)، وبالتالي كانت السردية المطروحة في العمل مُتحاربة، وهو ما نحى بكثير من الإسرائيليين لرفض العمل من بدايته، لأنه لم يتطرق إلى حالة عائلات المستوطنين الثلاثة كما فعل مع أبو خضير، وكيف صوَّر حالة الكرب التي ألمّت بأمه وأبيهِ، دافعة كل من يُشاهد للتضامن معهما، مع عدم التركيز على المستوطنين.

متابعة قراءة “مسلسل “فتيان”: سردية اليسار الصهيوني”

الفلسطيني والهجرة | أسباب ودوافع!

الفلسطيني والهجرة

الهِجرة – أسباب ودوافع

يولد الإنسان باكيًا وحينها تقوم الأم بتدفئتهِ واطعامهِ لأنها تعلم أن هذه هي المُشكلة، وليس لأنه فقط مجرد مزعج يريد البكاء. تقوم الأم بمهمتها المنوطة بها بشكل صحيح لا بضرب الطفل لأجل أن يسكت. وهنا درس يجب تعلمهُ فالأم هنا قضت على المٌشكلة. قضت الأم على المرض لا على العَرَضْ. بعد أن ينمو الطفل في العالم العربي يبدأ حينها بالعيش داخل مُشكلة كبيرة، ولا يسعى أبدًا إلى حلها، وإنما إلى معالجة أعراضها وهنا مُشكلة أخرى تتولد. وهذه المُشكلة هو ترك المشكلة كما هي والبحث عن مكان خال من المشاكل للبدء بهِ. وكذلك الأمر مع الهجرة مؤخرًا. الهِجرة ليستْ إلا نتيجة. من يقول أن الهجرة مُشكلة يكون مرة أخرى مُخطئًا حيث يبدأ بتوجيه اللوم للعَرَضْ مُجددًا. فكما نرى حينما يُصاب الإنسان بمرض ما أو حينما تُكسر ذراعه. فنحن لا نقول بأن يده هي المشكلة. أو أن العظم هو سبب الكسر. لأن الكسر هنا ما هو إلا نتيجة مشكلة أخرى وهي عدم الاهتمام بالصحة مَثلًا.

نعود للهجرة والفلسطيني.

الفلسطيني إنسان يولد مع جدول الكهرباء مطبوع في رأسهِ. يولدُ مكتوب على جبينهِ – بائس –. فقد ولدَ في الانتفاضة الأولى وما كاد أن يكبرَ قليلًا حتى أصبح أسيرًا، ولكنه حين خرجَ من سجنهِ لم يجد أي داع للحياة حيث القادة وغباءهم قد أفسدوا كل شيء. حتى وان علم هو حل المُشكلة فلن يتم استخدام حلولهُ فالكُل مُستفيد من بقاء المشكلة إلا الشعب. تزوج هذا الفلسطيني وهو يعمل بكد وقد كان زواجه بالديْن. لم يصبح عُمر ابنهُ العاشرة حتى قامت أيدي الانقسام بقتلهِ ربما عن طريق الخطأ. وما كاد أن ينتهي الانقسام حتى خسر زوجته وباقي أولاده في الحرب الأولى. لكنه يكابر ويصمد لأجل الوطن. قرر أن يتزوج من جديد ويبني من جديد. كان قد أتم البناء ومُستعد 100% للزواج الجديد وبدء حياة جديدة لكن الحرب الثانية لم تسمح له حيث تم قصف بيته الجديد وخطيبته قد استشهدت. لكنهُ كذلك قرر الصمود لأن شعبه – انتصر – في هذه الحرب. يُكابر على جرحهِ مُجددًا. يُقرر أن يبدأ من جديد مرة أخرى. ولكن الانقلاب الأخير في مصر لم يسمح له. لأنه أعاد الفلسطينيين إلا ما قبل نقطة الصفر. فقدنا نقطة الانطلاق.

لكنه يُكابر ويتحمل لأجل الوطن (أي وطن؟!). يسأل نفسهُ: (أعطيتُ وطني كل شيء. أحببت وطني أكبر من كُل شيء. أملتُ في وطني كثيرًا لكنه لا يتردد في إمنائي خيبة بعد خيبة. وخسارة بعد خسارة. هل تراها التضحية قليلة بعد؟! أم أن الوطن لسنا مثلما نعتقد؟! ربما لا يريد الوطن التضحية بقدرِ ما يريد أن يصلح من يمثلونهُ؟!). ينتهي التساؤل ولا سبيل فيعود إلى دوامة أفكارهِ.

متابعة قراءة “الفلسطيني والهجرة | أسباب ودوافع!”

بينَ القِيل والقال

 

بين القيل والقال

القِيل والقال

“القيل والقال” . .  لا يكاد يَوم أحدنا يُمر دون أن يمر عليه هذا المُصطلح على الأقل ولو لمرة واحدة، فقد صارت حياتنا كلها معتمدة على هاتين الكلمتين. أمست أخبار أهل الحي، تعتمد على القيل، والقال. حتى عدد من وكالات الأنباء صارت تأخذ مؤخرًا بما “قيل ويقال”!

كُلنا نعرف بأن مجتمعاتنا نوعاً ممتلئة بالغيبة والنميمة، بشكل وبائي بين الناس. وهذهِ الأمراض هي من أسوأ الأمراض التي من الممكن أن تحيق بمجتمع ما. حتى أنتَ يا من تقرأ لي الآن، وأنا الذي كَتبت . . أتى يومٌ علينا، واغتبنا فلان، وقلنا في ظهره كلام أو أي شيء!

لم أكتب هَذه المقالة لأضع شِفاءً أو أن أصنع عقاراً لأتخلص من هذا الوباء، فأنا لست بمثل هذه القدرة، وأيضاً إن الطريق الوحيدة للتخلص من هذه الأشياء هو أن نعود إلى ديننا عوداً صحيحاً. كتبتُ هذه المقال لأضع حداً لإحدى المشاكل التي تنجم عن هذه الأمراض.

عَزيزي القارئ . . لو جاء أحدهم لك، وقال لكَ : ” يا فلان، إن فلان يقول عنك أنك كذاب، وأحمق، وانه لا يطيق أن يراك”.  سوف تثور ثائرتك من أجل هذه الكلمات، وسوف تعلن الحربَ على ذاك الشخص، لأن فلاناً، نقلهُ لك . . حتى إنك لم تتحرى الصحة فيما لو كان فلان صادقاً أو كاذباً . . متناسياً قوله تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا”!!

ها أنت تشرع الحرب بينك، وبين شخصٍ لم ترَ منه أي شيء. تشرع حرباً على شخصٍ ربما يكون بريئاً، ويكون فلان أراد أن يحصل كل هذه لتكرهه ويكرهك حقاً لاحقا.

حتى لو كان فلان صَادقاً، فعامل ذاك الشخص بما يُظهر لكَ، وليس بما سمعت عنه، مع الاحتفاظ بالموقف، ليكن لديك وُسع أفق وأن تكون لديك ذاكرة دائمة خاصة بتخزين هذه المواقف، والاحتفاظ بها، لحين استواء “الطبخة“، وحينما يأتي الموقف المُناسب، أو كما نقول “الشعرة التي قصمت ظهر البعير” يمكنك أن تعبر بكل ما فيك من قوة عن مشاعرك تجاه هذا الشخص.

وتأكد تماماً أن الكلام الذي قِيل عنك فِي الخفاء هو كلام لم يكن يجدر بكَ أن تسمعه؛ لذلك إذا سمعت أن أحدهم قد تكلم فِيكَ . . لا تكرهه، ولا تعاملهُ بما سمعتْ . . عامله طبيعياً جداً، حِفاظاً على كرامتكْ، وماء وجهكَ، وحفاظاً على سمعةِ من أخبركَ، وإلا ستكون سبباً في فراق هذا الشخص، وفراق من أخبرك.

وكلنا يعلم قصة الإمام الشافعي (القصة فيما معناها، وليست هي تماماً)، جاء رجل إلى الأمام الشافعى فقال له فلان يذكرك بسوء .. فأجابه الشافعى : إذا صدقت فأنت نمام … و إذا كذبت فأنت فاسق، فخجل و انصرف.

عَامل الناس بما ترى منهم، وليس بما سمعت عنهم فأنت لا تعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور.

أنس رجاء أبو سمحان