جسدي قفص – نص

نصٌ من 18 يناير/كانون الثاني 2021.

بقدر سوء حظّي في اختياري لمن حولي، إلا أني أكاد أكون الأكثر حظًّا بأصدقائي الذين ربطتني معاهم تجارب مشابهة عشناها في سياقات مُختلفة، ولم نكن ندري أننا عشناها، إلا عندما اقتربنا من بعضنا دون أن ندري السبب. نعم، الكلمة هي محظوظ. لي أصدقاءٌ لم أرهم يومًا، ولكني أتجه إليهم عزاءً وفرحًا، حُزنًا وشوقًا، فِكرًا وقلبًا، نتحدّث في العام مرةً أو مرتين، ونتبادل الرسائل الطَويلة عبر البريد الإلكتروني. سمها صداقة حقيقية أو أدبية إن شئتَ، لن نختلف كثيرًا على المُسميّات.
كنتُ أتحدث وزياد التغلبي، صديقي السُوري الذي عرفته عبر الفيسبوك قبل سنوات، مُحادثة فيديو. بدأناها بالاطمئنان على بعضنا والسؤال عن آخر الأخبار والأفكار والحياة والعمل والعلاقات. تحدثنا عن الرسائل فيما بيننا، وعن انشغالنا الحاد عن بعضنا. في غمرةِ حوارنا، بدأت الحديث شخصيًا عن محاولة البقاء -جيدًا- وعن الاستمرار دون التحول إلى وحش قاتل. عن الحاجة إلى الكتابة. عن الحاجة إلى التقمص الوجداني empathy، وعن الشعور الفائض بالآخر أحيانًا أكثر من الذات. إلى أن وصلتُ إلى مرحلةٍ في الشرح، لم أكن قبل قادرًا على التلفظ بها أو الكتابة عنها. وهي المرحلة التي يخذلك فيها جسدكَ. مررتُ بهذا الخذلان مُسبقًا قبل أربعة أعوام، وعايشته مؤخرًا في شهري أكتوبر ونوفمبر. في تلك اللحظة التي تشعر فيها أنك تريد فِعل كل شيء، أن تخرج من عقلك حتّى من فرط الطاقة، ولكن وفي الوقتِ نفسهِ، تشعرُ أن جسدك يقاومك. جسدك الفاني، مُتعبٌ، أو يُتعبك. جسدك المُبتئس. يصحو صباحًا قبل أن يتشبع نومًا، وينام متأخرًا رغم إنهاكه. دماغك المُهترئة عملًا ولفًا، إلا أنها لا تتوقف عن التفكير البائس والباعث على الابتئاس. تجد طاقتك تموت في محاولة إنعاش الجسد. يخطر على بالك كتابة نصٍ، والعتبة في بالك جاهزة، إلا أن الرأس والجسد لا يساعدان. تريد أن تزور أصدقاءك وأن تخرج من بيتك، ولكن الجسد يخذلك في كرهه للتحرك. تُريد العوم في الماء، ولكن جسدك لا يتوقف عن التشنج. ضغطٌ من الأعلى، وضغطٌ من الأسفل، كأنك قد نزلت آلاف الفراسخ في أعماق المحيط. جسدك المُهترئ يكاد يتفجر، وطاقتك تذوي. يخذلك الجسد، يضمر الجسد، يتعب العقل، تموت النفسَ فيكَ، ولكنك تقاوم. وتقاوم. إلى أن تستعيد جسدك ثانيةً، ولكنه سُرعانَ ما يخذلك مُجددًا. تريد أن تكون حُرًّا منه. أقول لزياد كل هذا، فيذكّرني بأغنية من مُسلسل هاوس، «جسدي قفص»ٌ، يحبسني، يُقيدني، يلزمني بالأكل والشرب والنومِ، وأنا الذي أشعر أن حياتي قصيرة للغاية، وأنّ لدي الكثير من الأمور التي لم أجربها بعد. لم أكتب كل القصص بداخلي. ثمة نصٌ عالق في رأسي منذ أكثر من تسعِ سنوات. أتذكر عتبته. أعرف فكرته. يقفز إليّ في كُل لحظةٍ، ولكني لا أقوى على كتابتهِ. أكتب بحثًا، وأكتب عملًا، ولكني حينما آتي لأكتب نصًّا لي، ترتفع يافطة في داخلي، «انتهى الدوام». صار الجسد مؤسسة بيروقراطية مُترهلة في عصر الاستهلاك، ومحكوم بالحياة فيها. يبدأ عمله صباحًا، وينتهي عصرًا، ولا ساعات عملٍ غيرها. إذا صحوت متأخرًا، فقدت ساعات العمل، وعليك المحاولة في يوم آخر. فعلًا، جسدي قفصٌ، يأسرني. قفصٌ، لستُ أكرهه، ولكني أكره خذلانه المُتواصل لي. جسدٌ يملكني، ولستُ أملكه، وهنا مكمن الكابوس. جزءٌ منكَ، لا تقوى على التحكم فيهِ. يخذلك. يُفرحكَ. يتعبك. وعندما يموت، تموت، ولا تعرف كيف. أهو الوعاء؟ أهو الوجود؟ أهو التجسد؟ ما هو؟ في النهاية أتذكر نصًّا كتبته في السنوات الغابرة، لسنا إلا كومة ذكريات تمشي على الأرض.

في هذه اللقطة فقط، يعني أن تتصالح مع جنونك.
من أجمل المشاهد في كامل مسلسل د. هاوس.
House S7E16

اعتبرها رسالة أخرى يا زياد، وأنا الذي لأكتب هذا النص، لعنتُ نفسي الآن بليل طويلٍ دون نوم. لأني وكما قلتُ، يخذلني جسدي، إذ وكلما كتبتُ نصًّا، أصابتني حالة من فرط نشاطٍ لا يمكنني السيطرة عليه، ولا يمكنني حتى دفعه للنوم، فيبقيني مُنهكًا، مُتعبًا، نعسًا، غير قادرٍ على النومِ، وفي الآن نفسهِ، دون أية فائدة.
صديقي زياد، جسدي قفصٌ، ولكني لستُ عصفورًا.. حين يفتح الباب، لا أطير، وإنما أموت. وحسب هذه الصُورة، وكثير من الصُور المبتذلة، سيكون الخروج من القفص، حرية، ولكني لستُ متأكدًا، إن كان راحة.