تمر أمامنا بين كل فينة وأخرى احتجاجات من أشخاص نراهم أصدقاءً على قضايا ترتبط بالمُجتمع الأوسع، وتكون هذه الاحتاجاجات والاعتراضات على شاكلة «نحن» و«هم»، أي أنهم يشيرون، بقصدٍ أو دون قصدٍ، إلى باقي أطياف المُجتمع وكأنهم يتحدثون عن جماعة أخرى، أو لنقل أنهم يأخذون تلك المسافة المتعالية بعيدًا عن المُجتمع ثم يأخذن في التنظير عليهِ، وفي رأيي، من هنا يبدأ فشل المُثقّف.
سأتناول في هذه السلسلة، والتي قد يبدو عنوانها أكبر من حجمها، بعضًا من القضايا التي يتحدث فيها جيلًا جديدًا من الشباب يُصنف نفسه على مثقف أو مُتعلم، ولكنه يفشل في أول خطوة في رحلته، وهي التحدث مع مُجتمعه، إذ ومن أول نقطة علمٍ يشربونها، يربؤون بأنفسهم على باقي الناس من حولهم، ويصير حديثهم من الخارج إلى الداخل، في نبرة لا تختلف عن النبرة الاستعمارية التي تحمل الوصاية فيها، وهو ما يؤدي في النهاية إلى رفض المُجتمعات لهم ولفظهم، لأنهم لا ينطقون بلسانها، ولا يشبهونها.
وكيلا أطيل، سأبدأ بمثالٍ مُباشر، ثم قراءتي له. تنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع المحتوى تنظيرات من أشخاصٍ يدَّعون الوعي حول قضية الإنجاب، بحيث يستغل هؤلاء الأدعياء منصات (اليسار في الغالب) لإهانة فُقراء مُجتمعاتهم حول قضية الإنجاب، وكيف أنهم يواصلون التُكاثر بالرغم من سوء اوضاعهم، وهم بذلك يحمَّلون هؤلاء الفُقراء مسؤولية فقرهم ومصيبتهم (وهي مفارقة حين تصدر من اليسار). تصل بهؤلاء الأدعياء الدَّعية أحيانا أن يخوضوا حوارات مُتخيلة مع هؤلاء المُعدمين، يبررون فيها أسبابهم لعدم الإنجاب، وأنَّ على الجميع أن يكونَ لا إنجابيّ، لأن الحياة ليست عادلة، والقتل في كل مكان والإجرام منتشر.
لنبدأ في قراءة ما يقولونه قراءة متروية. ولنبدأ بالحجج الأبسط، في عالمٍ تُفسَّر فيه الحياة واستمراريتها بالرغبة بالبقاء والدفاع عن الحياة لتمرير الجينات من جيل إلى جيل، يكون التكاثر هو الطبيعيّ، والإحجام عنه منافٍ للطبيعة، وبالتالي يكون مطلوب من اللاإنجابيين أن يبرروا حيودههم عن الجماعة. هذه هي أبسط الحجج الدنيوية. ثانياً، ولأن الإنسان مجبول بفطرته على أن يبكي لحظة ولادته، وأن يأكل عن يجوع، وأن يتبرّز حين يُفرع، وأن يُمارس الجنس لحظة ثوْرته، يكون الإنجاب فعلاً غريزياً طبيعيا يحصل بدون تفكير، بل بناءً على واجبٍ بيولوجي، فكل الحيوانات من حولنا ترغب بالتكاثر غريزياً (غير الباندا 😂)، فلا نسأل الغزال عن رغبته بالتكاثر على الرغم من ملاحقة السنوريات له.

ثالثاً، يأتي هنا واجب الشخص الذي خالف ناموس الطبّيعة وقرر عدم الإنجاب، والذي لم يصل إلى قرارهِ إلا بعد درجة مُعينة من الوعي بالذَّات، غالبًا في عُمرٍ صغيرٍ، ولا ضير من قرارهِ، ولكنه عندما يُقرر هو قراره باللاإنجابية، فهو يخصه فقط، ولا يخص أي إنسيٍ آخر. أما وفي حين لو كان يدّعي هذا الشخص أنه مُثقّف أو كاتب أو شاعر، وأنه يريد التعليق على هذه القضايا بحكم ارتباطه في المُجتمع، فعليه أن يتوخى الحذر، خصوصا لو كان يرغب في التأثير في هذه المجتمع. وبالتالي، عليه ألا يأخذ المسافة الاستعمارية بينه وبين مُجتمعه بل أن يتحدث منه عنه، بصوت الـ نحن، لا بصوت الأنا والـ هُم، لأن النبرة الأخيرة يظهر فيها التحامل مُباشرةً، بحيث يفصل الدّعي نفسه عن سياقه، وبالتالي يفقد الحق في التفكير فرديًا عن الجماعة.
للتبسيط، إن كنت ترغب في التأثير في الجماعة، فلا يجب أن تعبر عن نفسك فرداً، بل أن تعبر عن نفسك (وبالحفاظ على خصوصيتك) بصوت الجماعة، أن تحمل صوتها، أن تُفكر في آلامها، وأن تفكر ظلَّامها، وأن تفكّر فيمن يعكّر عليها صفو الحياة، وأن تسعى، مع الجماعة، لمواجهة أي شرٍ خارجيٍ عليها، وأن ترفع عنها، مع الجماعة، أي ظلمٍ يسقط عليها، وأن تكتب عنها وأنت فيها، وألّا تكبر عليها، لأنك دون هذه الجماعة لا شيء. تفقد ما شكّلك، وتفقد ما صنعك، وتصير فرداً وحيداً، مغترباً، حزيناً، غاضباً، حتى لو كنت تسكن بين ظهرانيهم. والمسؤول عن هذا هو أنت.
يموت الفرد، وتبقى الجماعة.
Tweet
عند الحديث عن قضية الإنجاب مثلاً، فليس من الثقافة والوعي في شيء أن تُهاجم المُعدمين على خياراتهم الطبيعية، وعلى رغبتهم الغريزية في التكاثر، بل ان تهاجم الأوضاع التي جعلتهم كذلك، أن تفكر فيمن حرمنهم من التعليم، وفيمن حرمهم من فُرص العمل، وأن تفكر فيمن أبعد عنهم نفس الفرصة التي أتيحت لك. أن تُفكِّر عنهم، بصوتهم، وأن تحاول أن تتحدث معهم وأن تفهمهم. وإذا كان بيدك أن تجمعهم، وأن توفر لهم الفرص عبر التمويل الجماعي أو عبر جلسات التوعية، فقم بها، لأنهم سيرونك حينها تُقدّم لهم، وأنك تُحبهم، وأنك لا تتعالى عليها، وبعدها سيراك المُجتمع الأوسع بعين المُمثل عنهم، لأنك جمعت نفسك معهم في «نحن» واحدة، وقررت أن تخوض النضال معهم، أن تعمل لأجلهم، بدلا من التنظير للنهضة من برجٍ عاجيٍ من ثلة من «النُخب» الفاشلة، والتي تخوض حروبها عبر نضال الفنادق وشرب الكونياك وتدخين السيجار الكوبي.
التكاثر في المُجتمعات البشرية هو الطبيعي، ولا يمكن مساءلة الغريزة عن شروطها.
Tweet
وما يزيد من الحيرة حيرة، أن أجد بعضًا ممن يعيشون بيننا، في غزة وفلسطين على وجه الخصوص، يدعون بشكل دائمٍ إلى اللإنجابية، ويكتبون المقالات ويهاجمون المُجتمع الأوسع ويرمونه بألفاظ التخلف والرجعية، وأن علينا أن نكون أكثر وعياً ومسؤولية تجاه أبنائنا وألا ننجبهم في ظل هذا الموت وفي ظل الحروب والقمع الإسرائيلي وغيرها من الظروف. يخدم هؤلاء السذج بخطابهم هذا خطاب الاستعمار الاستيطاني. علينا أن ننقرض. أن نتوقف عن الإنجاب لأن الحرب ستقتل الأطفال. أن نوقف غريزة عمرها من عُمر الإنسان على الأرض. أن نتخذ قرارًا جماعيا بالانتحار، وأن نُسهل مهمة عدونا علينا. تُحارس “إسرائيل” الفلسطينيين ديمغرافياً، ونجد جماعة منا تدعو إلى قتلنا ديموغرافياً. لا تكون مُحاربة الفقر بمحاربة الفقراء، ولا باتخاذ قرارات تنم عن توجهٍ فردي معادٍ للجماعة، بل بمحاربة عدو الجماعة، وأن نزيد من الحشد ضدّه.

ولا يمكنك أن تستغل رفعةً رفعتك إياها الجماعة لتحقيق مآرب فردية، وأن تعتقد أنك حققك ما حققت لوحدك، لأنك لا تعيش في فراغٍ، وهذا لعمري أس كذب الرأسمالية حين تقول إن الأثرياء حققوا ما حققوه بمهارتهم لوحدهم، ويكأنهم لا يعيشون في وسطٍ اجتماعٍي مادي محسوس ساهم في صناعتهم. ومثل ثروة المال، فإن ثروة الحظوة الاجتماعية لا تحقق بمهارةٍ من شاعرٍ أو كاتبٍ او مغنٍ، إلا بعد اتفاقٍ غير رسمي بين أفراد المُجتمع أن فلانٌ أو فلان يكتب عنَّا أو يغني بصوتنا أو أنه يتناول قضايا منطقته بجدية واحترافية، وعلينا بالتالي ان نتبعه (أو نتابعه على الإنترنت). كلما عظمت قيمتك في هذا السياق، وكلما زاد عدد من يقرأ لك، تزيد مسؤوليتك الاجتماعية لديهم، فأنت هنا، لست وحدك، وهم ليسوا تبعاً، بل جماعة التفت حولك، ورفعت من صوتك، وزادت من حدة قلمك، ومن عظيم أثرك.
إن كان همك مع الجماعة، فاعمل معها، لا عليها.
Tweet
يكون عليك في هذه اللحظة أن تتخذ خيارًا، إما أن تكون منهم أو تكون عليهم، ولأسفٍ قاسمٍ، يذهب كثيرٌ من الشباب إلى الخيار الأخير. مُجتمعاتنا العربية مُمزقة، ويُمارس عليها العنمف والظلم منذ مئات السنين، ولو أتحيت لها ظروفاً أحسن، لكانت أحسن، وعلينا ألَّا نكون طبقة إضافية من الظُّلم عليهم، بل أن نعينهم. أن نساعدهم في رفع صوتهم. أن ندعمهم. أن نزيد من حدة وعيهم. أن نزيد من عددهم. وأن نكون مع الجماعة، لأننا حينها وفقط نكون قادرين على التغلب على ما يعصف بنا وبهم، وأن نكون نحن مع الـ هُم.