كُورونا: بعد الهنا بسنة؟


لربما تكون هذه المرة الاولى التي ألجأ فيها إلى استخدام ميزة التدوين في مدونتي مُباشرةً، أي بالكتابة على مُحرر الموقع، دون كتابة أو مُسبقة على ملف الوورد. أردت أن أكتب هنا دون قيد، ودون مُراجعة حتى، أن أكتب ما يدور في رأسي في الآونة الأخيرة، وخلال الحجر المنزلي بعد إصابتي بفايروس كورونا، وبقائي في المنزل لأكثر من 7 أيام متواصلة.

كورونا: بعد الهنا بسنة؟

قد يبدو العنوان غريبًا. كورونا بعد الهنا بسنة؟ عندما نشرت على الإنستغرام والفيسبوك خبر إصابتي، لكي أنبّه الأصدقاء ممن خالطوني ليكونوا أكثر حذرًا، انهالت الرسائل من الأحبة والأصدقاء والمتابعين عليّ تتمنى لي السلامة، وقد كنت سعيدًا بهذا الحس من التضامن فيما بيننا.

إلا أن بعض الرسائل احتوت على عنصر المزاح من الإصابة أو من الفايروس نفسه، وكان هذا المزح من البعض مغلفًا بالحُب والرغبة في التهوين عليّ، وهو ما ظهر في لين واختيار الكلمات من طرف المُرسل، ولكن ما كان مُزعجًا هو لجوء البعض إلى المزح المُغلف بالسخرية من الإصابة، فذكر البعض جُملًا من قبيل: «بعد الهنا بسنة!»، و«جاي تحج بعد ما الناس روَّحت»، وتكررت هذه الرسائل مرارًا وتكرارًا بشكل يبعث على الاستياء. بعض من أرسلوا هذه الرسائل كانوا أشد لطفًا ورحمة عندما عرفوا بمرضي بنزلة بردٍ قبل شهرٍ من اليوم، ولكن عندما كان الحديث عن كورونا، أشعروني وكأن في الأمر سباق نحو الإصابة. أو أن الإصابة الآن غير ذات أهمية كما كانت قبل عامين، مع زخم الإصابات.

لا أريد أن أبدو مثل طفلٍ ينوح، لكن الأعراض لم تكن خفيفة مثل الرشح، واستمرت حرارتي بالارتفاع في الأيام الأربعة الأولى، ولم يكن الأمر يحتمل سُخرية، خصوصًا لدى المصابين بالفايروس، أو ممن عرف صديقًا أو قريبًا أو حبيبًا أصيب بهِ، وكل من سخروا منه لديّ، لم يُصابوا بهِ إطلاقًا، وأيضًا، لاحظت أن جميعهم غير مرتبطين (عُزّب)، ولا أدري ما أفعل بهذه المُلاحظة، إلا أن وجودها شيِّق، خصوصًا أن أرأف ردات الفعل كانت من الصديقات الأمهات والأصدقاء والصديقات المتزوجين.

ذكرتني ردة فعل بعض الأصدقاء الساخرة بعرضٍ كوميدي على نتفلكس يسأل فيه الفنان الجمهور في استهلالة العرض: «هل تعتقدون أننا بالغنا في ردة فعلنا تجاه كوفيد-19؟»، كانت ردة فعل الناس متحمسة وأجابوا بصوت واحد: «نعم»، وهنا كان رد الفنان المُفاجئ: «قولوا ذلك لمن ماتوا منه!». يُذكر أنَّ عدد وفيات الفايروس حول العالم قد بلغ أكثر من 6 مليون شخص.

الصورة من عرض His Dark Material على نيتفلكس

الحياة مع الحجر

لم أخرج من شقتي منذ مساء الخميس الماضي (16 يونيو 2022)، وهي أطول فترة أقضيها حبيس مكان واحدٍ دون الخروج من عتبة بابهِ. مرَّت 7 أيام منذ رأيت وجه إحدى أصدقائي أو زملائي. وقد أعاد لي هذا العزل الإجباري ذاك الشعور بالقلق الذي صاحبنا في أيام الحجر الأولى، ولكن على أشد، خصوصًا أن بداية كورونا كانت في فصل الشتاء، كما كان بإمكاننا الخروج فرادىً والتمشي والتعرض للشمس. كان بإمكاننا أن نلتقي بالأصدقاء. وكان يعم العالم وقتها شعورٌ بالكُليّة، حيث ولوهلة قصيرةً، أخذنا نهتم بأنفسنا وبالناس من حولنا. أما هذه المرة، فالحجر صيفي، وفي صيف الدَّوحة الحارق، الذي يوجب تشغيل المكيف طوال الوقت، وهو ما يشعرك البرد على الدَّوام، دون فرصة للخروج إلا إلى رطوبة عالية، فـأصير في هذه الحالة حبيس الحرارة والبرد والفايروس معًا.

صورة لشقتي بالدَّوحة

كنت وفي إطاري حديثي مع الأصدقاء في الآونة الأخيرة أقول إني خلصتُ إلى نقاط مهمة في الحياة ساعدتني في تحقيق سعادتي الشخصية، وتمثلت النقاط في أن الإنسان:

  • لم يُخلق ليعيش لوحدهِ بين حيطان أربع.
  • لم يُخلق ليعيش في الليل، بل ليسكن فيه وليعمل في النهار.
  • لم يُخلق ليعيش في المدينة طوال الوقت (سواء مغتربًا أو مع عائلة، على اختلاف أثرها على كل واحد منهم).

وعملت مؤخرًا على لقاء الأصدقاء والأحبة، وقد ساعدني هذا في بناء عائلة حقيقية في الدَّوحة، عائلة استزرعتها من بذور طيبة، ونمت هذه البذور، ووقف هؤلاء الأصدقاء عائلة أمامي (لأستعير من فيروز كلماتها)، وظهروا حقيقيين في هذه الأزمة، قدموا لي ما أحتاجه. أرسلوا لي الشوربة إلى البيت. وأرسلوا لي الإفطار والغداء في أيامٍ مُختلفة، وكانوا معي على اتصال دائم مُطمئنين على حالتي.

خرجتُ من عباءة الشاب/الشخص المنطوي والمنعزل المزعومة، إلى عباءة حقيقة أكون فيها جزء من مجتمع حيوي، فيه ناس أحبهم ويحبونني، أخالطهم، أشاركهم مسَّراتهم وأحزانهم، أتحمل ما قد يبدر منهم أحيانًا، لأني أعلم على المدى الطويل، بأنهم سيكونون معي، وأنهم عائلتي.

خرجت من عباءةً الكائن الليلي التي كانت هي من ترتديني طوال أعوام سابقة، وركنتُ إلى طبيعة الإنسان بوصفهِ جزءًا من الطبيعة، وبأنه كائن يبدأ نهاره مع شقشقة الفجر، وينتهي مع غروب الشمس، وقد كان لهذا الأمر عظيم نتيجة على حياتي وزيادة جودتها، وعلى اختفاء كثير من بنات الصدر وبنات النفس. صرت قادرًا على التعامل مع الأفكار في وقتها الآني، دون تأجيلٍ لها يأتيني في ليلي وقبل منامي.

أعانتي النقاط الثلاثة كثيرًا في أن أرى نفسي جزءًا من شيءٍ أكبر، بدلًا من أن أكون وحيدًا دائمًا في مواجهة الطُوفان. أن أكون صديقًا وحبيبًا وأخًا وابنًا. أن أكون شخصًا يتحمل المسؤولية، ويعي أنه يعيش في مُجتمع أوسع، وأن لأفعاله تبعات، ومسؤوليات، وأن عليه أن يلبيها، ليرد إليه هذا المُجتمع جميله.

أعدد الأيام والليالي الآن، وعلى الرغم من إني أنام بالليل، وأصحو بالنهار، إلا أن هذا لم يمنع وحشة الشّقة من التوغل إلى داخلي، فهذا العزل الانفراديّ يعيد إليَّ أفكارًا وذكريات سلبية كثيرة نظرًا لتوفر الوقت لها. أحاول إشغال نفسي عنها بالعمل، لكنها تعاود الظهور. أفرد لها وقتًا للتفكير بها. تخفت. تختفي. لكنها في اليوم التالي تعاود الظهور.

لم يُقصِّر الأصدقاء معي، وتواصلوا معي على الدَّوام، وأكَّدوا لي مرارًا، وأشعروني تمامًا، بأني لستُ وحدي، وأنا لستُ وحدي إطلاقًا، ولكن في هذا تأكيدٌ كبير وشديد على أن الإنسان لم يُخلق ليعيش لوحدهِ إطلاقًا. أستغل الوقت، رغم تعبي، في القراءة، والكتابة، والترجمة، وفي العمل أحيانًا، إذا تمكَّنت، ولكن الشعور بالوهن والضعف المصاحب لكورونا، يبعث وهنًا آخر يمتدُ إلى زوايا العقل. أحارب الوهن مفردًا، ثم أتخيل نفسي بصريًا أحاربه مع كل الأصدقاء. أهزمه الآن. أكتبه نصًا. أقوله صوتًا. أرسمه صُورةً. وأستمر أعدّ الأيام حتى أخرج من سلطة هذا الوحش، إلى قُرب أحبتي، وإلى حيث يرتاح صدري، وقلبي، إلى دوري، إلى إحساسي بالجماعة، فأنا، لستُ وحدي كما يُخيل لي، لستُ وحدي.

تحسَّنت صحتي كثيرًا اليوم، وقد سمحت لجسدي خلال الأيام الماضية أن يأخذ الراحة التي يحتاجها ليكافح المرض، ومرة أخرى، سعدت كثيرًا بالاهتمام الذي رأيته من الأصدقاء والأحبة حول العالم، فقد أغدقوني بشعور العائلة فوق الحدود وعبر الأثير الإلكتروني.

انتظروني في تدوينات جديدة، إذ أعجبتني الكتابة المُباشرة. والنشر الطويل.


اختبار المواقف

لا أكتب هذه الكلمات نكاية ولا مكرًا، ولكن مثل هذه المواقف تكشف لنا على الدَّوام أفكارًا ومواقفًا وأشخاصًا لم تتح لنا الفرصة لاختبارها مسبقًا، ويكون لدينا المتسع، لنعمل على تصفية جديدة، نختار منها ما يوافقنا، وما يُهمنا، وأن نستعد دائمًا لما يأتي بعدها بدروس كثيرة، وعتاد جديد.

رأي واحد حول “كُورونا: بعد الهنا بسنة؟

  1. مرحبا أنس، لا باس عليك وطهور إن شاء الله

    استمتعت بمدونتك، أتفق معك بأن الإنسان في كينونته كائن يحب الاجتماع، لا أن
    ينطوي على نفسه مغلقا بذلك أبواب الانفتاح نحو تلك الحيطان الأربع

    أدعوك لسماع حلقة منت قد كتبتها بعنوان (كيف تعيش لعمر أطول) استسقيت أفكارها
    من الاغتراب، وعيش حياة العزلة، لتتغير لاحقا، وتندفع دفعا نحو الاختلاط مع
    الناس وحب معاشرتهم

    https://podcasts.apple.com/sa/podcast/%D8%AE%D9%88%D8%A7%D8%B7%D8%B1-%D9%85%D9%81%D9%83%D8%B1%D8%A9/id1606773790?i=1000552592632

    وإن لم تملك الوقت لسماع يطيل عليك فهنا في مدونتي النص الذي نقلته صوتيا

    https://notesaziz.blogspot.com/2021/02/blog-post.html?m=1

    دمت بود

    https://podcasts.apple.com/sa/podcast/%D8%AE%D9%88%D8%A7%D8%B7%D8%B1-%D9%85%D9%81%D9%83%D8%B1%D8%A9/id1606773790?i=1000552592632

    إعجاب

أضِف تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s