أن تكون العودة نبوءة


قبل أشهرٍ، وقبل سفري إلى جُورجيا، كنت أنوي زيارة غزة، لرؤية أهلي وأصدقائي والمكان لأول مرة منذ سنوات ثلاثة، ولكن لم يسعفني الوقت ولا القدر في تلك الزيارة، إلا أن بعض الأصدقاء من الدّوحة توجهوا إلى القطاع، وأرسلت معهم بعض الأشياء لعائلتي، وتمكنوا من زيارتهم في عيد الأضحى.

كتبتُ في تلك الفترة نصاً (نهاية يوليو)، ولم أنشره وقتها، وأضعه بين أيديكم الآن.


يسأل كنفاني، أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ ألّا يحدث هذا كله. يقول درويش إن الهوية بنت الولادة، لكنها في النهاية إبداع صاحبها. كيف يُفكّر بالوطن من يتجاوز إحساسه بالهويات القومية؟

أفتح حسابات التواصل، وأرى الغزييين ينكبّون من كل حدب وصوب، ليحضروا العيد في غزة. بعضهم لم يرها منذ عقود، وآخرون تركوها من سنوات.

أرقب كل صورةٍ، وكل حضنٍ. كل أغنية عودة، وكل دمعة أم. كان يجب أن أكون أنا في الصُّورة؟ كان يجب أن أكون أنا حقيقة. ولكني ماذا أفعل؟ أجوب بلاد القوقاز مثل حيوانٍ بريّ، بعيدًا عن أعين الحضارة. عن أذرع «الحضارة» الممتدة، والتي منعتني من تنشق هواء المتوسط في غزّة.

فكما أن الخروج من غزة سبقه ترقب أشبه بترقب يوم القيامة، صارت التفكير بالعودة، ولو لزيارة، يشبه الترقب للعودة من الأعراف، ثم إلى الجحيم. هل أقول هنا أن غزة جحيم؟ قطعًا لا. أن تعلق. هذا هو الجحيم. والأعراف أشد كُفرًا.

ماذا أفعل وأنا أحن إلى المنبت؟ إلى شكل المكان الذي أعرفه وأعرف تفاصيله وخفاياه؟ كنت أخوض حوارًا مع صديقٍ منذ عدة أسابيع، وسألني، كيف ترى حياتك في غزة إلى جانب حياتك خارجها. أقول له، كنت جنينًا. صُورة مبتذلة؟ لا يُهم الصُورة حقيقية. تبدأ حياتنا من لحظة الرحم في بطون أمهاتنا، ثم نقضي باقي حياتنا بحثًا عن أرحامٍ أخرى لنعود إليها، وهذه سنة الحياة. وفي حالة غزة، وفي حالة أي منبت، يكون الرَّحم مفتوحًا للعودة.

تُعطيك غزة خيار الانسحاب. خيار الانفصال. خيار البساطة. أن تجلس تحت شجرة الظل المزروعة فوق أمتار عشب النجيل. تشرب كوب شايٍ، تسحب أوراق النعناع من الحوض إلى جانبك. تغسلها من العين إلى جانبك. تضعها في الكأس أمامك. تمد قدميك. تخترق نسمة هواء عليلة قبيل الغروب شعرك ووجهك. تأخذ نفسًا عميقًا، وتمارس دورك كجزء حيوي في هذه الصورة الطبيعية. أنت الآن لست كلًا. تستريح من حالة الكُلية. تصير يدًا. تصير خلية أحادية. تصير فراشة عث. تستحيل نباتًا. تُغلق عينيك. تفترش الجسد. تحاول امتصاص الضوء. تتنفس الهواء. يتوقف العقل للحظات. يستريح فيها وجودك من دفق الأفكار غير المنتهية. صارت الأرض الآن تُفكر عنك.

ينادي عليك أبوك من آخر الحقل لتشاركه الجلسة بالقرب من أشجار الكرفوت، أو لتساعده في تجوير أشجار الزيتون الغربية، أو في تعشيب أشوار الملفوف. تستعيد علاقتك للانشغال بالحياة جسدًا وعقلًا. تنادي عليك أمك، بأن وجبة العشاء صارت جاهزة. تجتمعون. خبزًا طازجًا. ساخنًا. من فرن الطين خلف البيت. بعض فطائر الزعتر. القمح من أرضك. والزعتر من أرضك. والزيت من أرضك.

طال الفرع كثيرًا. ابتعد عن منبته. وصارت تغذيته أصعب. حن الفرع إلى الجذع. ظمآن. شمس جذره تختلف عن شمس أوراقه. وهواءه ليس هواءه. وبحره ليس بحره.

يتصل علي صديقاي، ويخبرانني، بأنهم في الطريق إلى أهلي. أرسلت معهم هدايا. أبتسم قليلًا، ثم أغضب. بأي حقٍ يكونون في حضرة أهلي؟ بيتي؟ بأي حقٍ سأراهما بعد أسبوع هنا، وقد آكلا مما أعدته يداي أمي؟ ومما عرق جبين أبي لأجله؟ يتشاركون المنبت معي. تختلف البذور، لكن الأرض وحدها. أسعد لهما. أرى في نفسي امتداد لهما، وفيهما امتداد لي. أحاول التهوين على نفسي. والآن؟ أواصل العمل، أبتعد عن الصُّور. تصير العودة الآن رؤيةٍ ونبؤةً. ليست العودة المجتزأة، وإنما العودة التي تلغي مواسم العودة. العودة الخيار. العودة دون ترقب. دون خوف. دون أن تعلق. العودة النهائية.

من تلال برجومي في الشمال الجورجي | يوليو 2022

أضِف تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s