قراءة في كتاب الانتقال الديمقراطي وإشكالياته لعزمي بشارة (مُراجعة بحثية)


نُشرت المقالات الأربعة لأول مرة على مجلة رمُّان الثقافية، وأنشرها هنا مُجتمعة.

يأتي هذا الكتاب للمفكر العربي عزمي بشارة استكمالًا لكتاباته السابقة منذ منتصف التسعينيات في موضوعات المجتمع المدني والمسألة الديمقراطية عربيًا وما يتفرع عنها من قضايا الجيش والسياسة والمسألة الطائفية والثورة والقومية، وهو ما جعل لنتاجه أهمية عربية أولًا، وعالمية ثانيًا.

ينطلق بشارة من مُقدّمة الكِتاب واضعًا الأسس والتعريفات، ضابطًا إياها[1]، ليعرف القارئ أو المتخصص لحظة اطّلاعهِ على الكتاب، كيف تُصاغ المفاهيم، ولتغييب أي شكل من أشكال السيولة عن المُصطلحات والمفاهيم، وبالتالي يكون العمل مثمرًا، أكثر منه جدليًا، كما جرت عادة الكتابة عنده أصلاً، في التأصيل للمفاهيم من ثمة الانطلاق إلى رحاب النظرية ونقدها وبناء جديد عليها. يُحدد الكاتب مكونات ثلاثة ضرورية للديمقراطية المُعاصرة، والتي لا تقوم قائمة للديمقراطية بدونها: 1. المُشاركة السياسية لكافة المواطنين مع ضمان المساواة في التعامل والحق في تقرير المصير. 2. حكم القانون بتحديد السلطات التشريعية والتنفيذية وذلك لمنع تعسّف القانون، وإخضاعهِ للعملية الديمقراطية. 3. ضمان الحقوق السياسية والحريات المدنية الناتجة عن المكون الثاني، كي لا يكون المكون الأول شكليًا. يخوض بعدها المؤلف في تحديد باقي التعريفات، وذلك عبر المرور التاريخي للأدبيات السابقة ومناقشتها، وإبداء أوجه النقص أو الإضافة فيها.


القسم الأول

ثمةَ سؤال مُتكرر في العلوم الاجتماعية والإنسانية دائمًا: من يأتي أولًا، النظرية للظاهرة؟ أم الظاهرة ثم التنظير لها؟ هل النظرية تصنع الظاهرة؟ أم أنها فقط تُمارس في رسوخها أو استمراها؟ بهذه الطريقة يبدأ بشارة كِتابه، محاولًا تبيين أن النظريات الغربية في هذا المجال، والمسُتقاة أولًا من التجربة الغربية، والتي وضعت أيضًا لترسيخ الأنظمة الديمقراطية، فهي خاصّة بالغرب، وإن كان بعض نقاطها يمكن تعميمها عربيًا، فإنه يستحيل تعميم النظرية بشكل كامل، ليس فقط فيما يخص الانتقال الديمقراطي، وإنما فيما يخص التحديث والدولة وغيرها من المفاهيم الأخرى في العلوم الاجتماعية والتي ينطبق عليها الأمر نفسه. يبنى بشارة ذلك في محاولة منه لتوضيح أنّ ما ينجح هناك لن ينجح هنا دائمًا، وليس مرد ذلك إلى فقدان العرب/المشرق لإرادة التغيير، وإنما فقط لأسباب الاختلاف البنيوي بين هذه المجتمعات، وبالتالي يجب أن تكون طرق تناول الحلول مناسبة للمشاكل في المنطقة واللغة والعرقية والديّن أيضًا. يأتي نقد بشارة هُنا موجهًّا لمن يقولون إن الديمقراطية ابنة أوروبا، وابنة سياقها التاريخي، وإنه لا يمكن «إعادة خلقها» مرة أخرى في أماكن وسياقات أخرى، وأيضًا، يرمي بالنقد لمن يقولون بوجود شروط نشوء مَوضوعية، وهي المُستقاة من التجربة الأوروبية/الأميركية، وبالتالي، فإن غياب هذه الشروط، يعني عدم وجود إمكانية للديمقراطية، فيردّ عليهم بوجود فصلٍ بين: «الشروط التاريخية لنشوء الظاهرة […] وشروط إعادة إنتاجها»[2].

وفيما يخص الأبحاث الغربية غير المتخصصة عربيًا، فلا يدعو بشارة إلى القطيعة معها إطلاقًا، بل يدعو إلى البناء منها وعليها، ولكن مع دراسة نظرية وتطبيقية خاصة في المنطقة من داخل المنطقة نفسها، وأن يكون التعامل معها على أساس محليتها لا على أساس دوليتها أو غربنتها. يقترب بشارة هُنا إلى كلام الفيلسوف الألماني يوهان فابيان في كتابه Time and Order، والذي كتب فيه ناقدًا لاتجاهات دراسة الشعوب خارج أوروبا وأميركا، حيث كانوا يرون أنه يجب أخذ مسافة «مكانية» من المَدروس، ليكونوا موضوعيين، ولكنه قدّم متغيرًا آخر يتعامل بهِ هذا الدراس، إذ يرى الغربي أنه في «زمانية أخرى» غير زمانية الشعوب المدروسة، فهو متقدّم وداخل التاريخ، بينما الآخر، فهو خارج التاريخ أصلًا[3]، وبالتالي، تكون مُمارسة الكتابة عنه أشبه بالتلقين، حتى لو كانت خاطئة، فهو من يكتب عنك ويشرح إليك، ويعطيك فرضيات عن نفسك لتقرأها وتصدّقها، ثم لاحقًا تؤمن بها. هذا الأمر انتهى سواء بالنسبة لفابيان أو بشارة وكثير من الباحثين والعلماء مثل إدوارد سَعيد وإيفلين سلطاني، حيث دخلت الشعوب الأخرى إلى الوسط، وهي لم تغادره أصلًا، وصارت قادرة على إنتاج المعرفة عن نفسها في السياق الزماني نفسه، بحيث يصيرون هُم والآخر Coeval كما أوضح فابيان، أي بمعنى أن زمن الخطاب واحد، وأن الأنا والآخر معاصريْن.

من هذه النقطة، يلجُ بشارة إلى متن الكِتاب داعيًا الكُتّاب والباحثين إلى الغوص في دراسات الانتقال والتحول الديمقراطي في المنطقة العربية منطلقين من قناعة بإنه بالإمكان الاسهام في تطوير العلوم الاجتماعية بشكل يتناسب مع العالم العربي، وألّا يسلموا بالدراسات التي تحاول المواءمة أو فرض وجهات نظرها عليها من الخارج، وأن يكون بحثهم عابرًا للتخصص، وألّا يُفصل بين دراسة هذا الموضوع، ودراسة مواضيع أخرى مُهمّة تؤثر عليها مثل بناء الأمة وشرعية الدولة ودور الجيش ودور القبيلة والقرابة وتشكل الهويّات وغيرها، إذ «لا يُفترض أن ترتبط دراسات الانتقال بإدارة الظهر لهذه الشؤون»[4]، وبالتالي، فإن الدراسة الخاصة التي تنطلق من المنطقة عن المنطقة، ستحمل مفاهيمًا ومصطلحات وتعريفات جديدة تنبثق من واقعها، لا من واقع آخر مُغاير، خصوصًا في صيرورات نشوء الديمقراطية، مثل الإقطاع ورأس المال والتقليد والحداثة، لأن البنى الواصفة لهذه المصطلحات، لم تكن أو ليست قائمة في المُجتمعات العربية على النحو ذاته في المجتمعات الغربية، ولا حتى ملكية الأرض أو علاقة الفلاحين بالملّاك أو بشكل السلطة المركزيّة، وعليهِ، فإن تطبيقه خارج سياقه يكون «مُضللًا»[5]، وهنا يصف بشارة مشاكل تطبيق نظريات نشوء الديمقراطيّة وأصولها عند بارغنتون مور -مثلًا وليس حصرًا.

يُشير بشارة إلى أن جذور دراسات الانتقال بدأت ردًّا كنقدٍ جدليّ لنظريات التحديث، خصوصًا أن الأخيرة تضع شروطًا «بنيوية» للديمقراطية، وهو ما يدعوه لاحقًا ولمرات عدة للتفريق بين ثلاث مفاهيم تبدو واحدة في ظاهرها، ولكن مع الدراسات أثبت تمايزها عن بعضها البعض، وهي «أسباب نشوء الديمقراطية» و«أسباب رسوخ الديمقراطية وديمومتها» و«أسباب وأشكال الانتقال الديمقراطي من السلطويّة».

يحاول التحديثيون دائمًا احتكار الميدان من التخصص الواحد، لشرح وتعريف أمور كثيرة لا يمكن حصرها، وتطبيق نظريات وتعميمها، في حين أنه لا يمكن تعميم أي شيء منها إلا البديهيات. مثلًا، يُعامل دانيال ليرنر المنطقة العربية كاملة مع إيران وتركيا على أنها كلها قطعة واحِدة ويريد تطبيق نظرية التحديث عليها دون اختلاف، بل أنه يرى أن رزمة «الحداثة الغربية»، من موقع كونيتها، وأن ما نجح عندهم سينجح في أي مكان في العالم، دون تفريقه لشكل تدرج هذا التحديث، أو منطق انطلاقهِ، سواء كان اقتصاديًا، أو عسكريًا (من الخارج) أو حتى داخليًا (من أعلى)[6].

تتوقف محاولة فرض نظرية التحديث عن وضع الشروط، بوضعهم نظرية تشبه نظرية نهاية التاريخ لفوكوياما في حتميتها، أي أن مسار التحديث دائمًا يُفضي إلى الديمقراطي، وذلك من وجهة نظرهم لازدياد نسبة التعليم، والوعي العام بالإصلاحات والتحديث، وتطور علاقة الإنسان القروي مع أخيه إلى النموذج المديني القائم على «التقمص العاطفي»، والانتقال من نموذج العائلة المُمتدة إلى العائلة النواة، والتوجهات الفردية بدلًا من الجماعاتية، وانخراط الفردي في الرأي العام، وغيرها، ولكننا نعيش الآن في عصرٍ، يفند جزء كبيرًا من هذه الأمور، إذ صار الرأي العام سائلًا، وصار الفرد من قريته الصغيرة، يشارك العالم رأيه و«تقمصه» العاطفي، للدرجة التي صار صعبًا على البشر التمييز بين الرأي الحقيقي والزائف، وصار الإنسان مُقحمًا في الفردانيّة، حتى في ظل المُجتمعات «المُحدّثة». وبالإضافة إلى ذلك، سعت كثير من الأنظمة السلطويّة في القرن الماضي إلى استخدام سياسات التحديث واللبرلة الاقتصادية، وفتحت الجامعات، وأقرت التحديث العلمي فرضًا، وحسّنت المدارس، وأجازت الشركات، وغيرها، ولكن وحسب مقاربة التحديث، فإن هذا يؤدي إلى إصلاحات أخرى تنتهي بالتحول الديمقراطي، ولكنهم لم يضعوا في الحسبان، أن كثير من الدول السلطوية (الشمولية) وغيرها من الدول الريعية، استخدمت وسائل التحديث ذاتها في تعبئة المُجتمعات، وتعزيز أو ترسيخ سلطويتها، عبر الأنظمة المتأصلة والمؤسسات المتنوعة والتطور التكنولوجي الشديد سواء في المراقبة أو في المعاقبة.

يُشدد بشارة على أن السياسة الحديثة مشوبة بالكثير من اللاعقلانية والأسطرة، فما قد يبدأ بوصفهِ تحديثًا، قد ينتهي به بنتائج غير محمودة مثل تذرر الأفراد بدلًا من الفردانية والتضعضع بدلًا من الهوية والأشكال البطريركية «الجديدة» بدلًا من الأشكال الملكية السابقة أو حتى ميلاد كيانات هجينة بين القديم والجديد، بالاعتماد على شكل أو اتجاه التحديث المفروض. ونرى هنا نقد واضح لمقاربة التحديث في طريقها نحو الديمقراطية، ويضع الحداثة كمنتج للتحديث (وليسا الأمر نفسه)، فالحداثة لحظة بداية التحديث تولد مع نقيضها، ولا تقدم بديلًا لأي نظام بقدرِ ما تولدِ حلولًا قد تساعد أو لا تساعد.

يوجه بشارة سهام النقد إلى خلط الباحثين بين المفاهيم الثلاثة أعلاه، خصوصًا مع سيمور مارتن ليبسيت عام 1959 في ربطهِ بين النظرية التحديث والدراسات الديمقراطية[7]، حيث يخلط ليبسيت بين الشروط التاريخية لنشوء الظاهرة وشروط إعادة إنتاجها، ولم يكن الخلط عشوائيًا، بل كان واعيًا، بتأكيده على أن مُتطلبات ترسيخ الديمقراطية هي الشروط المسبقة المطلوبة لنشوئها أيضًا. ويوضح بشارة إلى أن هذا الربط الخاطئ، من وجهةِ نظرهِ، كان المنشأ النظري لدراسات الانتقال[8]، على خلاف مع الآراء التي تقول إن روستو كان من بدأها بمقالتهِ عام 1970[9].

أشار بشارة مراتٍ عدّة إلى أن أسباب نشوء ورسوخ بحوث استقرار الديمقراطية كانت بسبب الخطر الشيوعي ودراسة استقرار النظام الديمقراطي في الدول الغربية، خوفًا من سقوطها بسبب التعبئة والاستقطاب الأيدلوجي، سواء في الغرب نفسه أو في الدول الموالية له.

ينتقد الكاتب تعريف ليبسيت للديمقراطية، إذ يتناولها الأخير فقط في إطارها الوظيفي الشكلاني أحيانًا والبنيوي في أحيانٍ أخرى بوصفها طريقة للتداول السلمي للسلطة فقط، وبهذا فإن أهلية الناخب تقتصر على الانتخاب. يرى بشارة بأن ما يذهب إليه ليبسيت يعد تحديدًا اختزالي للديمقراطية، تحديد «لا يفرد مكانًا للحريات في متن التعريف»[10]. ومثل ليبسيت، يأتي جوزيف شومبيتر بشروط لنجاح الديمقراطية، إلا أن هذه الشروط في مُجملها لا تتعلق بالشعب نفسه بقدر ما تتعلق بالنخبة الثقافية واحدها والمؤسسات والبيروقراطية، وهي بالتالي تُحيّد الجمهور عن السياسة، وجعل هذا الشكل: «حكم قلة من السياسيين تداول السلطة فيما بينها»[11].

لا ينفي بشارة علاقة التطور والتمدين والتحديث والقدرة على إقامة نظام ديمقراطي بالكامل، فكما أشار ليبسيت في بياناته الكُميّة حول هذه المسألة، ولكن نقده، بأن السياقات تختلف بالاعتماد على الشكل الإثني أو الطائفي أو بما له علاقة بسياسات الهوية في بلدٍ ما، ونوعية التعليم، وشكل الأنظمة السابقة (التاريخ) في تحديد واقع ومستقبل أثر التحديث في البلد المدروس. وكما أشار الكتاب لاحقًا، قد تكون نوعية التعليم في بلدٍ ما قوية وممتازة للغاية، ولكن لا توجد مساحة للشعوب أن تعبر عن رأيها بسبب المراقبة الشديدة، والتحكم العالي من الدولة في كل مناحي الحياة عند المواطنين مثل الصين.

ينتقل بعدها بشارة إلى مقاربات الرسوخ المبنية على تحسن أو رفاه الوضع الاقتصادي، إذ يوضح ليرنر وليبسيت أن ارتفاع مستوى المعيشة يزيد من احتمالية المحافظة على الديمقراطية[12]، وهو ما يتفق مع المؤلف، وما تؤكده الإحصائيات الكمية (باستثناء الدول الريعية). ويشير آدم شيفورسكي أن نشوء الديمقراطية «بغض النظر عن أسباب نشوئها، فستكون أكثر ديمومة في حالة النمو الاقتصادي»[13]، ولكن يضيف في أن تحسن الوضع الاقتصاديّ في دولةٍ ما، لا يساعد الديمقراطية فقط، لأن الدكتاتوريات وإن نشأت في ظل رخاء اقتصاديّ ودول متطورة فإنها تنزع إلى الصمود لفترات أطول، ويوضح بشارة أن هذا النمو الاقتصادي يُترجم في مؤسسات دولة قويّة وناجعة ومستوى اقتصادي عالٍ يُسهم في بقاء أي نظام بغض النظر عن شكلهِ[14].

يحاج بشارة في هذا الموضوع بأن الديمقراطية الجديدة، والتي تنشأ بعد حُكم سُلطويّ، فإنها تكون في وضعية حساسة وهشّة إذا لم تحقق على المنظور القريب أو البعيد أي نموٍ اقتصادي، لأن هناك توقعات شديدة مقترنة بالديمقراطية، وتكون المعارضة جاهزة لمهاجمتها زعمًا بأنها لم تحقق ما أقيمت لأجله، وهو ما قد يؤدي إلى عملية انتكاس، وعودة للسلطوية. يجادل بشارة هنا بأن القيادات السلطوية في هذا الإطار تحظى «بدعم أكبر وتتعرض لاحتجاج أقل في حالة الأداء الاقتصادي الجيد»، مُشيرًا إلى أن الأنظمة الديمقراطية، خصوصًا عندما تكون في بدايتها، تكون فرصتها في البقاء ضعيفة إذا لم تتوفر معها أدوات أخرى، إذا لا يمكنها كبت الأصوات أو قمع الاحتجاجات أو المظاهرات إطلاقًا، وبالتالي، فإن الديمقراطيات الجديدة في الغالب تحمل سبب فشلها أو وأدها في واحد من أهم أهدافها.

وعند الحديث عن الشروط الضرورية للديمقراطية، وحتى مع وجودها، فإن بشارة يؤكد على أهمية إرادة الفاعلين السياسيين في تحقيق القيم الديمقراطية، وحتى إن جادل البعض بأنها كافية للنشوء، فهي قطعًا غير كافية للرسوخ والحفاظ على النظام الديمقراطي، وبالتالي فإن الإرادة الحقّة لتحقيق الديمقراطية عند الفاعلين السياسيين من أهم أحجار الأساس في عملية الانتقال للديمقراطية.

أما في حديثهِ عن كسب الصفة «الشرعية» للنظام، فيسلط بشارة الضوء إلى حاجة كل الأنظمة إلى شكل من أشكالها للاستمرار، وأن الديمقراطية، خصوصًا الوليدة منها، تحتاج إلى الشرعية أكثر من غيرها، وإلى فقد تسقط في فخ المعارضة أو المشاكل مع البُنى والأنظمة القديمة التي تحاول الإطاحة بها، إذا ما شعرت بأنها تتعارض ومصالحها، خصوصًا طبقات رجال الأعمال وجنرالات الجيش وقادة الأجهزة الأمنية أو رجال الدولة أو أصحاب المَصلحة. أشرنا سابقًا أن الديمقراطيات الجديدة تكون دائمًا في خطر الانقلاب عليها، وهي بشكل خاص «لا يمكنها تعويض غياب الشرعية بالعنف ولو مؤقتًّا»[15]، وهو ما يتطلب من الفاعلين السياسيين الديمقراطيين في ذلك الوقت القيام بمجموعة من التسويّات[16]، حسب ليبسيت، مع القوى القديمة لتحافظ على شرعيتها، ولتأخذ فرصتها في إقناع الناس بأنها الأكثر ملاءمة من غيرها في تحقيق تطلعاتهم.

في هذا الموضوع بالذات، يدلل بشارة، وعبر تعرضه للأدبيات السابقة وتاريخ الديمقراطيات القديمة والحديثة، إلى أن عملية الانتقال أو التحول الديمقراطي فيها، لم يكن بين ليلة وضحاها، بل حصلَ على شكل مساومات بين الأنظمة الملكية والبنى القديمة في الدولة، وبشكل تدريجي، تمكنّ الفاعلون السياسيون من فرض وترسيخ الديمقراطية وعلى مدار عددٍ من العقود أو السنين أحيانًا، وهو ما ينتقد به مرة أخرى المنظرين السياسيين والفاعلين السياسيين الذين يسعون إلى تطبيق الديمقراطي بشكلها النهائي في إحدى الدول على الدول العربية، وعند فشل ذلك، يتذرعون بأن العرب ليسوا جاهزين للديمقراطية وأن الديمقراطية تؤدي إلى الاقتتال وغيرهِ. لا يترك بشارة فرصة في الكتاب إلا ويستغلها للتأكيد على موضوع تدرج الديمقراطية، والفصل بين التجارب، والتمايز في التنظير لكل تجربة على حدا، وهي نقاط، وإن صارت بديهية في نقطةٍ ما، إلا أنه يجب التأكيد عليها دائمًا، خصوصًا في وجهِ من ربطوا نشوء التيارات الدينية المتطرفة عربيًا بمظاهر التحول الديمقراطي -زعمًا-، ويتناسون أن مثل هذه الكيانات والتيارات نشأت في ظل الحركة التحديثية أو «العلمنة» الكاذبة التي اتخذتها الدول العربية، ولكنها لم تخدم فعليًا سواء طبقات بعينها، وتركت البقية يعيشون في فقرٍ مُدقع وبيروقراطيات مُهترئة، وبالتالي، يكون السبب الحقيقي لتكوّن التطرف، هو الاستبداد نفسه، إذ أنه أصلًا لم يُعطِ الديمقراطية فرصتها، ولم يسعَ يومًا إلى بناء ثقافة سياسية دنيوية مُشتركة لجميع الأحزاب والقوى السياسية -حسب تعبير ليبسيت-، وبالتالي، لم تقم فرصة لبناء شرعية نظام ديمقراطي أصلًا[17].

في شرحهِ لأسس شرعية النظام الديمقراطي في عددٍ من الدول مثل الولايات المُتحدة والسويد وبريطانيا، يتناول بشارة أن التدرج في التحول، لم يعنِ أبدًا السلمية، ويضيف بأن التدرج نفسه لا يكفي لتفسير الشرعية في تلك الدول، بل ربط الأمر بالعمق التاريخي لنشوء الأنظمة فيها وتزامن نشوء الهويات القومية والتي «باتت مرتبطة بهذا النظام ورموزهِ»، ويؤكّد الكاتب أيضًا أن ارتباط نشوء الديمقراطية بالهوية القومية الحديثة من خلال الصراع مع دول أخرى، فإن هذا يساعد على رسوخ النظام الديمقراطي حتى لو تعرّض لعددٍ من الهزّات. وفي هذا الإطار يمكن للقارئ أن يسأل نفسه سؤالًا، هل شرط وجود عداوة مع دول أخرى؟ ماذا عن الهويات العابرة؟ ماذا عن بناء الديانة المدنية؟ لماذا الهوية القومية؟ ولماذا فرّق هنا تحديدًا بين الهوية القومية والهوية الوطنيّة؟ يوضح طبعًا بشارة الفرق بين الاثنين وأهميتهما في بناء النظام الديمقراطي ورسوخهِ.[18]

في السياق نفسهِ، وفي أثناء تفكيكه لمشكلة البُنى القديمة في السياق العربي، يتحدث بشارة عن تخويف تلك البنى للناس من خطر الإسلاميين، واستخدام السلطوية للقضاء على الديمقراطية لأنها ستكون الوسيلة التي سيستخدمونها في الوصول إلى الحُكم وبعدها فرض آرائهم، وهو بالمناسبة ما يشير إلى مفارقة غريبة، حيث إنهم فعلوا الأمر نفسه عندما تصالحوا من الأنظمة العسكرية، وهُنا يدعو بشارة أولًا إلى مراجعة مقاربة الديمقراطية «ليس بوصفها مسألة انتخابات ومشاركة سياسية فحسب، والحرية ليس بوصفها شرطًا لتوفير انتخابات نزيهة وكفى […] بل باعتبار الحريات المدنية مساويةً للحقوق السياسية في متن تعريف الديمقراطية»[19]. ويتطرق أيضًا هُنا إلى مشاكل تعريف الهويات المتفرقة في داخل الدولة الواحدة، وكيف تتحول التعددية بدلًا من شكل من أشكال التقابل، إلى شرخٍ كبير يهدد أي ديمقراطية وليدة، وكيفية استعمال الأطراف لهذه التعددية في خلق سياسيات هوية «تحول الانقسام في كل قضية مهما كانت صغيرة إلى “نحن” و”هم”»[20]، وفي هذا إشارة من بشارة إلى أن ما يحصل مع الإسلاميين، ليست مشكلة الإسلاميين وحدهم، بل مشكلة مُتجذّرة عند الأطياف السياسية التي تحوّل «التعددية» إلى شرخ ثقافي واجتماعي -وسياسي طبعًا- يستخدم في إقصاء الآخر، كما حصل في مِصر، والجزائر وألمانيا النازية، وإسبانيا وغيرها.

يُكرر بشارة في الفصل الثالث ملاحظاته الأولى عبر التدرج في عملية الانتقال، شارحًا وناقدًا عناصر التدريج من وجهة نظريات التحديث، مُبتدئًا بشروط روبرت دال السبعة لبناء نظام التعددية السياسية، إذ يؤكد دال صعوبة تحول ديمقراطي دون وجود تقاليد تسامح تجاه المعارضة وتوزيع المركزية، وبالتالي يقول بإنه يستحيل أن تتحول السلطويات إلى ديمقراطيات مُباشرة دون المرور بمرحلة مُختلطة شبه سلطوية أو مختلطة شبه ديمقراطية، ولكن ما حصل بعد أعوام من نشره لكتابه، تحولت اليونان والبرتغال وإسبانيا من سلطويات إلى ديمقراطيات، دون مرحلة وسطى، وهو ما يقود إلى إحدى أهم فرضيات كتاب بشارة المُتكررة «ما ينطبق على نشوء الديمقراطيات الأولى لا ينطبق على نشوئها في المرحلة المعاصرة»[21]، ومن هنا، يبني بشارة على كلام جوزيبي دي بالما حول صناعة الديمقراطية، ويدعو إلى استخدام مُصطلح «تبني الديمقراطي وليس نشوئها»، بمعنى أن تعلم كل دولة حسب سياقها التاريخي والاجتماعي والسياسي إلى نسختها الخاصة من الديمقراطية، بدلًا من الالتزام بالديمقراطيات الغربية بوصفها نموذجًا وذلك لاختلاف الظروف الموضوعية، وأن «الظروف الفريدة ليست هي ذاتها الظروف الضرورية المطلوبة»[22].

يستمر بعدها بشارة في نقد مقاربات فشل الانتقال إلى الديمقراطية بوصفها حالة طبيعية أو نمط حياة، مع أنها لم تكن كذلك في كل أماكن نشوئها[23] أو نقد ربط نجاحها بعناصر ثابتة، مثل نوع المُستعمر السابق للدولة (بريطانيا/فرنسا/هولندا/إسبانيا)، ويؤكد بشارة على ضرورة التمهل في تسمية العلاقات، فوجود علاقة ظاهرية بين أمرين لا يعني وجود علاقة سببية بينهما. كما ينتقد الكاتب الربط بين الأديان والانتقال الديمقراطي، بوصفها عائقًا، لأن هذا يُغيّب حقيقة أن سلوك البشر لا تحدده نصوص الديانات وإنما أنماط ممارسة التدين والتي تتشابه في الأديان كافّة، «والتي تساهم في بلورتها أمور عوامل عدة، منها البنى الاجتماعية والأعراف الموروثة وطبيعة نظام الحكم السائد، والعقيدة أيضًا، والمذهب»[24]. من هنا يدعو بشارة مرة أخرى وبالاعتماد على التجربة الروسيّة وحركة الإصلاحات فيها بضرورة التمييز في عملية تكييف الديمقراطية في كل بلدٍ على حدا، حيث تعتمد كل واحدة منها على تاريخ طويل من إجراءات العلمنة وشكلها وتطبيق العلمانية، وأن احتمال نجاح الديمقراطية أو فشلها يعتمد بدرجة كبيرة على «خيارات القادة والجامعات السياسية وسلوكهم وقراراتهم»[25]، ولذلك، فكما ظهرت تسميات خاصة في التحول الروسي، يشير بشارة إلى أن النظريات الاجتماعية لا تمكن الباحثين دومًا من وضع قاعدة يمكن التنبؤ بها، وعليهِ، فإن وضع أي استثناء بما يخص القاعدة العربية حول التوقع والتحول الديمقراطي، هو استثناء لقاعدة لا وجود لها أصلًا، أي أنه لا يجب التصديق باستثناءاتهم، لأن التنبؤ في هذا الميدان يكاد يكون شبه مستحيل.

في الفصلين الأخيرين من القسم الأول يتناول بشارة موضوع البرجوازية والرأسمالية والديمقراطية ونقد مقاربات التحديث المبنية عليها، فهو يستهل الفصل الرابع بنفي مور لتلازم الرأسمالية والديمقراطية، وأن الرأسمالية أيضًا لا تتعارض مع العبودية، ولم يكن يخطر لماركس أن تتحول الرأسمالية إلى الديمقراطية مع الحق العام في الاقتراع، وأن تتحول الشيوعية الدكتاتورية[26]. يؤكد مور أن العبودية أيضًا ساهمت في تطور الرأسمالية الصناعية في الولايات المُتحدّة، وهو ما شكّل عقبة لاحقًا في الطريق إلى الديمقراطيّة. في هذا السياق يُشير بشارة إلى قصور نموذج مور في تفسير كل شيء بالاقتصاد دون إيلاء الدولة الحديثة أو أشكال التحديث أي اهتمام، وهو ما يستغله بشارة لإعادة النقد لنموذج روبرت دال في الربط بين لبرلة الاقتصاد واقتصاد السوق، وبداية الإصلاحات والانطلاق نحو الديمقراطية، مُستعينًا بالنموذج الصينيّ والسُوريّ، وذلك لإحكامها القبضة السياسة والأمن والاقتصاد والمجالات الأخرى[27]. بالإضافة إلى ما سبق، يشير بشارة إلى مسألة غاية في الأهمية وهي أن العامل الحاسم في التحديث داخل الدولة، على أي مستوى كان، ليس التحديث نفسه، وإنما نمط التحديث ودور الدولة فيه وفي الاقتصاد وليس الرأسمالية، بل كيفية نشوء الرأسمالية وطبيعة نشاطها[28]. وبهذا يخلص عدم صلاحية التعميم في الربط بين الرأسمالية كشرط أساسي لنشوء الديمقراطية، مُشيرًا إلى أن الدول التي نشأت فيها الرأسمالية نتيجة لعمليات لبرلة الاقتصاد تحت نظام سلطويّ، لم تكن فيها الرأسمالية هي الحامل للأفكار الديمقراطيّة، وإنما القوى المُتضررة من اللبرلة مثلما حصل في سُوريا ومصر وتونس[29].

وفي نقد الربط بين البرجوازية والديمقراطية، يوضح بشارة إلى أن الأخيرة كانت الأقدر من بين كل الأنظمة على عقد تسويات بين الطبقات، دافعة بالطبقة البرجوازية حصرًا للتخلي عن جزء من امتيازاتها مقابل الحفاظ على طبقتها، إذ نظّمت الديمقراطية إدارة الفجوة الطبقية عبر البرلمان والنقابات وغيرها من المؤسسات عبر الاعتراف بالحقوق الاجتماعية من جهة وفرض الضرائب التصاعدية من جهة أخرى. وخلافًا للتوقعات الحتمية للتاريخ عند الشيوعيّة، لم يؤدِّ الاستقطاب الصناعي إلى وجود طبقتين، طبقة تملك كل شيء وطبقة لا تملك أي شيء وإنما إلى وجود فئات كبيرة من الخبراء والفنيين والمديرين والطبقات الوسطى المرتبطة بالقطاعات الإنتاجية والخدمية، وفئات واسعة من المثقفين والفنانين والأدباء والصحافيين المرتبطين بتطور مؤسسات الدولة والمؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية، وزيادة حجم الجمهور المستهلك لإنتاجهم، وكان هذا ناجمًا عن التطور العلمي والإداري[30].

في الفصل الأخير يضع بشارة على بساط النقد التحديث وشروطه البنيوية للتحول الديمقراطية، ويرى أنها تحولت على يد بعض الباحثين من أمثال هنتنغتون إلى أيديولوجيا تبريرية للدول السلطوية أو الدكتاتورية في طريقها نحو التنمية وتحقيق التطور الاقتصادي والصناعِي، ويشير إلى أن التحديث لا يكون بالضرورة متوازيًا، فقد يتأخر التحديث السياسي على الاقتصادي، وقد يكون هناك واحدًا دون الآخر. فدول مثل سنغافورة، رغم تطورها الشديد، إلا أنها ليست ديمقراطية، وبالتالي، فإن دعم هذا النماذج لتحقيقها النظرة الاقتصادية الغربية قد ينطوي على تنظيرٍ للدكتاتوريات عمومًا تحت دواعي «التقدّم».

وفي حديثهِ عند عودة جاذبية النموذج الغربي في اللبرلة والدمقرطة، يركّز بشارة أن ذلك مردّه نشوء «طبقات وسطى جديدة وفئات جديدة من التكنوقراط والمتعلمين غير المؤدلجين»[31]، وظهروا أولئك مع «تفاقم أزمة الأنظمة السلطوية العربية منذ السبعينيات بتحولها من قوة تحديثية إلى عائق أمام التحديث»[32]، وبعدها ظهرت مشاكل التحديث من الأعلى ، عندما استخدمت الأنظمة العربية شعارات التحديث والعلمنة والغربنة في قمع الآخر، وقتل المعارضين وتخريب البنى الاجتماعية وتفكيك المُجتمع، والانتقال من الفردنة إلى تذرر الفرد، وهو ما أدّى إلى ردة فعل عكسية عند المُجتمعات قائمة على الانكفاء على الذات والعودة الجذور «المتخيلة» مثل بروز التيارات الإسلامية وغيرها، ولكن ما يفشل في معالجته الباحثون أن مثل هذا الانكفاء ليس أصيلًا، بل هو من نتائج التحديث المتأخر نفسه، أو كما يقول مصطفى حجازي، تتمثل ردة فعل المقموع مع التحديث في الانغلاق على الذات (العودة إلى الأصول)، ولكن يتناسى المُجتمع أو الفرد لحظتها أن كل ما فعله ليس إلا ردة فعل، وردة الفعل تكون فعلًا تحديثيًا صَرِفًا في هذه الحالة.

يُختم القسم الأول من الكتاب بنقد منظري التبعية للتحديث ولإيمانهم الحتميّ في أن «منتهى صيرورة التحديث في البلدان النامية هو نموذج شبيه بالدول الغربية»[33]، وقالوا إن انفتاح الاقتصاد ينتج دائمًا مَركزًا وهامشًا. مركزًا يُحافظ على الهامش في مكانه ليستمر تدفق البضائع إلى ذلك السوق المٌستهلك، وهامشًا وظيفته الاستهلاك وتصدير المواد الخام إلى المركز، وركزّ منظرو التبعية على أن ما يُنتج التخلف ليس الإقطاع أو التقاليد أو غيرها، بل التبعية[34].

يخلص بشارة إلى أن الديمقراطية، ومهما كانت أسباب الرغبة فيها، قد صارت حُلمًا عند الشعوب المُستعبدة سواء من عدو خارجيّ أو مستبد داخلي، لأنها الوحيدة القادرة على تحقيق الحُريّة، وينبه إلى أن انتهاء الحكم السلطوي لا يعني بالضرورة انتقالًا ديمقراطيًا، وذلك لأن هناك شروط كثيرة: أن تكون الديمقراطية خيار الفاعلين السياسيين الرئيسيين، وألّا يتدخل الجيش وألّا يأخذ موقفًا مُناهضًا للانتقال الديمقراطي، وتوفير شروط الانتقال وترسيخه، وذلك عبر المساومات وعددٍ من الأمور الأخرى[35].


القسم الثاني

يُخصص بشارة القسم الثاني من الكتاب للحديث عن دراسات الانتقال الديمقراطي في خمسة فصول ابتداءً من تصنيفها ومقارباتها وخياراتها وأثر الأنظمة السلطوية على الدراسات نفسها، ثم نقد الأنظمة الجاهزة في دراسات الانتقال وينتهي بالحديث عن الإجماع على الدولة.

الانتقال إلى دراسات الانتقال

واستكمالًا لحالة ضبط المُصطلحات، والتي تعد الوحدة الأساسية في التنظير في مثل هذه المجالات[36]، يبدأ بشارة بوضع تعريف عام لعلم الانتقال Transitology، وذلك بوصفهِ مخالفة لمقاربة التحديث، ويشرح بأن دراسات الانتقال ليس علمًا ثابتًا، بل هي: دراسات حالة، ودراسات «مقارنة لظروف التحول من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطيّ ومراحل الانتقال، وسبل إنجاحه»[37]. أيّ أن تعريف دراسات الانتقال ينطوي على جزئين، جزء عام، وجزء خاص لكل حالة، ولا يتوقف على واحدة من العناصر أعلاه، بل عليها كلها في الوقت نفسه. ويُشدد بشارة على غائية دراسات الانتقال، إذ أنها تسعى للتوصل إلى الديمقراطية، ولا يرى الكاتب أي مشكلة في تسمية منظري الانتقال الديمقراطي بـ «الغائيين»، لأنه ليس نقدًا سلبيًا، ولأن غائيتهم في هذا السياق أخلاقية وليست نظرية ولا تتناقض مع الموضوعية العلميّة[38]، إلا في حالات قليلة.

يذكر بشارة أن ما حفز ظهور دراسات الانتقال أمران، أمر معنويّ، بمعنى أنه جاء برسالة رفض للدول المتطورة التي تحاول أن تقول للشعوب النامية بعدم إمكانية تطبيق الديمقراطية لديهم[39]، وأمر نظري، فرضته الحقائق التاريخية، ويكون هادفًا إلى تحقيق النمو تحت الأنظمة السلطوية والمُساعدة في الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية في بعض دول أميركا الجنوبية، واليونان وإسبانيا[40].

ويشير بشارة إلى أن كثير من الأنظمة التي ظُنّ بأنها لا يمكن أن تنتقل ديمقراطيًا، حققت الانتقال بنجاح، وأن كثير من الدول التي كان يُعتقد بأنها ستكون علامة على رسوخ الديمقراطية، انتكست وعادت للسلطوية، وأن كثير من حالات الانتقال في الوقت نفسهِ، لم تنتقل ديمقراطيًا، بل عادت إلى شكل من أشكال السلطويّة، رغم كل الدراسات والأبحاث التي عقدت حولها. يُمكننا هُنا أن نلمس حِس دريدا التفكيكيّ في تفرّد النص الأدبي[41]، وحسّ بول دي مان، في مقاومة النص الأدبي للنظريّة[42]، ويأتي بشارة في هذا السياق ليقول بأن الانتقالات والدول والشعوب، تقاوم النظرية في الوقت نفسه، وأن كل تجربة انتقال مثل أي نص، هي نظرية بحد ذاتها. قد نكون أحيانًا قادرين على الاعتماد على نظريات أخرى لفهم الحالة، وبالتالي، يكون التنظير لدراسات الانتقال الديمقراطي غالبًا، تنظير بأثر رجعيّ، وليس مسبقًا تمامًا، بحيث تُعدل الشروط والعوامل المساعدة وغيرها مُفصلة للتجربة التي حصلت[43] ولا يتم فرض النظرية على التجربة بهذا الشكل التطبيقي المُجحف.

يستخدم بشارة الفصل نفسه لنقد الأساطير الرافضة لإمكانية تطور أو انتقال ديمقراطيّة عربيّة، سواء من الغرب أو من العرب أنفسهم تحت ذرائع ضعيفة وركيكة، فيقول بأنه «لا توجد استثناءات عربية لأنه لا توجد قاعدة»[44] أصلًا عندما يتعلق الأمر بالانتقال وتحقيق الديمقراطيّة.

يستمر بشارة في مناقشة أدبيات دراسات الانتقال بوصفها أدبية مصوغة في علم السياسة المقارن ومن داخل الخطاب الديمقراطي، ويؤكّد على أن الدافع النظري لتأسيس نظريات الانتقال كان دافعًا معياريًا مضمونه الإيمان بالقيم الكونيّة، ولكنه يشرح لاحقًا أن الديمقراطية ليس علمًا بحد ذاتها وإنما نظام حكم سياسيّ، وأنّ رغبة الناس فيها لا تكون أحيانًا متعلقة بالنظام نفسه، بقدر ما هو هرب من النظام السلطويّ[45].

ومن التعريف الأول لدراسات الانتقال بوصفها مخالفة لمقاربة التحديث، يذكر بشارة أن نظرية التحديث تنطلق من شروط رسوخ الديمقراطيات المستقرة، في حين أن دراسات الانتقال تنطلق من استقراء تجارب جديدة ناجحة تحقق فيها انتقال من السلطوية إلى الديمقراطيّة، ومن هنا يدعو بشارة إلى التمييز بين: 1- الشروط الضرورية و2- الشروط القابلة للتعميم و3- شروطًا أخرى غير مُحددة تستنتج من تجربة البلد المدروس[46]. ويذكر بشارة في هذا السياق اتفاق لين كارل وفيليب شميتر على ضرورة التخلي عن الشروط الضرورية والتركيز على تنوع الظروف التي قد تَظْهَر/تُصْنَع الديمقراطية في ظلها[47].

أربع مقاربات نظرية لدراسات الانتقال

يسرد بشارة المقاربات النظرية الأربعة بناءً على تصنيفات سوجيان جيو ويان تيوريل، ويبدأ بالمقاربة البنيوية الوظيفية والتي بنُيت على أعمال منظري التحديث مثل ليبسيت وألموند ومور، ويوضح بشارة أنّ هذه المقاربة ليست مدرجة في سياسات الانتقال في القسم الأول من الكتاب، ولكن بعض عناصر النظرية البنيوية فرضت نفسها كشروط للانتقال[48]. ويشرح تيوريل أهمية النظريات البنيوية للانتقال الديمقراطي في أنها تعطي الأولوية للعوامل البنيوية، ولأنها أيضًا لا تحدد تأثير العوامل على الفاعلين الاجتماعيين أو شكل وخيارات نظام الحكم، وهذا لأنه وحسب بشارة، فإن ليبسيت يعرف أن من يقوم بالانتقال بشر نهايةً، وقد أشار فعلًا إلى دور النخبة[49] ولكنه لم يعالج الموضوع. يؤكد اعتماد الباحثين على المعلومات الكميّة في وربط الديمقراطيّة بمعدلات الدخل والتعليم وغيرها على أنّ «مقاربات التحديث ما زالت حية ترزق وتفيد في الأبحاث المقارنة بين البلدان»[50].

تأتي المقاربات المؤسسية ثانيًا إذ ينصبّ جل اهتمامها على دور المؤسسات في الدولة وأثرها على تشكيل السياسات والتوعية السياسية وفي تحديد الفاعلين السياسيين وخياراتهم. انطلقت المؤسسة القديمة من وجهة نظر بشارة بوصفها علم الحوكمة المُقارن، وذلك بالنظر إلى الديمقراطية بوصفها التعبير الأعلى والأفضل عن الفضيلة السياسية، وليس على أنها مجرد نظام سياسيّ، وبالتالي، فإن كانت هناك مؤسسات، يمكن فرض الديمقراطية والتغيير من الأعلى، وبحيث تعمل المؤسسات على تغيير المجتمع، وبالتالي، فإن حل أي مشكلة لا يكون عبر تغيير السياسات، وإنما عبر إصلاح المؤسسات[51].

يلتزم منظرو هذه المقاربة المؤسسية بنماذج زراعة المؤسسات أو نقلها بالقوة، ويفترضون أن بناء هذه المؤسسات في دول مختلفة سيؤدي إلى نتائج مُشابهة، دون الاهتمام بالفاعلين السياسيين، ولا الاهتمام بالشعب والأفراد إلا بوصفهم «جهة مطالبيّة»، وبين شيفورسكي فشل هذا النموذج إذ أن «فكرة فرض الديمقراطية على أفغانستان والعراق تبدو سخيفة رغم كل شيء»[52]. فمن وجهة نظر بشارة، لم تقدر المؤسسية القديمة أهمية البعد اللاعقلاني في السياسة، وأنها بتجاهلها للبعد المُجتمعي، فإنها لم تنتبه إلى تشكل الظواهر الجديدة مثل الشعبوية[53].

وبغض النظر عن المؤسسية التاريخية أو المؤسسية الجديدة، فلا استغناء عن المقاربة، إذ لا يمكن تغييب أهمية عنصر واحد، لقصوره في جانب على حساب آخر، بل يمكن التوفيق بين المقاربات وما تقدمه، إذ أظهرت كثير من الدراسات وجود علاقة بين مؤسسات النظام القائم وبين طبيعة تغييره ودرجة صعوبة التغيير أو الإصلاح، وشكل هذا الإصلاح، وتأثيره على عملية الانتقال[54]، لما للإرث «المؤسسي الذي خلفته الدول القديمة وطبيعة التغيير الثوري […] وتحالفات النُخب»[55] وفي ذلك محاولة ربطٍ بين المقاربة المؤسسية ومقاربة الخيارات الاستراتيجية (دراسات الانتقال).

ومثل شروط التحديث، نجد هنا أيضًا مقاربة قائمة على الاقتصاد السياسيّ، وذلك بالاهتمام بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والتفاعل بينهما باعتبارهما متغيرات لتفسير نتائج الانتقال، وتنبع هذه المقاربة من المصلحة الاقتصادية، خصوصًا أن شكل النظام سيحدد دعم فئة من الفئات، فلو كان ديمقراطيًا، يدعم الفقراء، ولو كان دكتاتوريًا، يدعم الأغنياء، ووفق أرسطو، فإن الفقراء يفضلون الديمقراطية والأغنياء الدكتاتوريّة[56]، وهذا تاريخيًا صحيح، ولكنه غير صحيح حين تكون الشركات تتدخل في العملية الانتخابية والاقتصار على المنافسة الحزبين، حيث يستفيد الأغنياء حينها من التهرب الضريبي والفوائد وغيرها. يشير بشارة هُنا إلى أن منبع هذه المقاربة يتناقض الآن مع الطفرات الشعبوية الكبرى ضد الديمقراطية، إذ تستند هذه التيارات استنادًا واسعًا على دعم جزءٍ كبير من الفقراء. على كل حال، وبالاعتماد على هذه المقاربة في أن الديمقراطية تخدم الفقراء وتفرض ضرائب متصاعد على الأغنياء كما رأتها تحليلات بوش وجيمس روبنسون ودارون عاصم أوغلو، ولا يرى بشارة مشكلة في ذلك، ولكن يقول إن مثل هذه السياسات الرامية إلى إعادة توزيع الثروة تؤدي «دورًا في رسوخ النظام وليس في نشوئه»[57]، يواصل الكاتب بعدها نقده لهذه المقاربة من كافة نواحيها، وبأن النجاعة الاقتصادية بشكل عام تسهم في الرسوخ بعد الانتقال، ولا يمكن للعوامل الاقتصادية وحدها أن تحدد إرادات الفاعلين، وهذا لأنها -المقاربة- تأخذ «خيارات الفاعلين السياسيين باعتبارها معطاة، لكنها لا تبحث في العوامل التي تشكلها»[58]، وهنا تمامًا أتي تركيز نقد بشارة لستيفن هاغرد وروبرت كوفمان.

دراسات الانتقال: الخيارات الاستراتيجيّة

يُفرد بشارة هذه الفصل استكمالًا للمقاربات أعلاه، إذ تعتبر مقاربة الخيارات الاستراتيجية هي الرابعة في القائمة، ولكنه يتحدث عنها بشكل منفصل، لأنها الهدف الأساسي من القسم الثاني في الكتاب، وهذا لما شكلته من تحديات أمام المقاربات البنيوية لتأكيدها على أهمية الفاعل السياسي والتفاعلات بين النخب ودورهم في إنجاح أو إفشال الانتقال. [59]

يناقش بشارة في هذا الفصل أنه وبدلًا من انتظار تحقق شروط الديمقراطية التي أدت إليها في الغرب أو بعض الدول المسيحية، فإن مقاربة الانتقال تدرس حيثيات الانتقال التدريجي نحو الديمقراطي، أو زرع البذور الأساسية التي تؤدي إلى نمو الديمقراطي، حتى لو وقعت لاحقًا ثورة أو أزمة اقتصادية. في هذه الحالة، تكون هذه الثورة أو الأزمة هي الشعرة التي قسمت ظهر البعير، وساهمت في إرساء البنى الديمقراطية الموجودة مسبقًا، باختلاف أشكال هذه البنى، سواء اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو حتى ليبرالية. طبعًا يعود الفضل إلى روستو في مقالته المنشورة عام 1970 والتي أُعيد إحياؤها بعد 26 عام على نشرها، موضِّحًا فيها عناصر الانتقال الديمقراطي: 1- النخب هي مفاتيح عملية الانتقال سواء في الحكم أو المعارضة. 2- يُعرّف الفاعلون بحسب مواقفهم من النظام وليس بحسب مصالحهم الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة. 3- سلوك الفاعلين سلوك استراتيجي وتأثر أفعالهم بتوقعاتهم. 4- الدمقرطة تكون نتيجة مفاوضات ومساومات[60].

وفي إطار حديثه عن الموجات الثالثة التي أثرت في علم دراسات الانتقال ابتداءً من مقالة روستو ومرورًا بدخول دول جنوب أوروبا وأميركا اللاتينية في عملية التحول الديمقراطيّ، وليس انتهاءً بدول أوروبا الشرقيّة ثم إفريقيا والاتحاد السوفياتي، يُشير بشارة إلى أن كثير من هذه الدول كانت واقعة تحت أنظمة سلطوية متنفذة وشموليات كبيرة، ثم عبرت في أوقات متفرقة بعدد من الانتفاضات والثورات والتي قُمعت في وقتها، ولكنها حققت نتائجًا جيدة، ووصلت الانتقال لاحقًا، وفي هذا توقع من بشارة حيال ما سيحصل عربيًا في المرحلة المُقبلة[61].

وكما في القسم الأول، يُكمل بشارة في نقدهِ للدراسات السابقة والمنظرين، موضحًا عوامل القصور والنقص فيها، خصوصًا فيما يتعلق في التخصيص والتعميم، مُبينًا أنه لا يمكن وضع شروط مُحددة ووصفها بأنها الوحيدة، حيث إن شروط روستو مثلًا في مقالته الأولى غير ممكنة التحقيق في الديمقراطيات الجديدة ذات المعارضة القويّة[62].

يدحض روستو بعد عودته إلى دراسات الانتقال تعليل وجود الديمقراطية في دول ما بالارتباط بالثقافة السائدة في المُجتمع، لأنها من وجهة نظره مسألة إجرائية، وتقوم على الصراع بين الديمقراطيين وغير الديمقراطيين، ويلخص بشارة العناصر الأساسية في دراسة روستو كالآتي: 1- التمييز بين التفسير الوظيفي وتفسير منشأ الظاهرة، فعوامل الرسوخ تختلف عن عوامل النشوء. 2- يركز التفسير الوظيفي على العلاقة التبادلية بينما تفسير المنشأ على الفرق الواضح بين السبب والنتيجة. 3- لا يمكن اختزال العلاقة السببية في العوامل الاجتماعية أو الاقتصادية التي تؤدي إلى نتائج سياسية. 4- ليست كل الأسباب أفكارًا تؤدي إلى أفعال. 5- الطريق المؤدّي للديمقراطية ليس واحدًا. 6- قد تختلف عوامل حسب الديمقراطية في المرحلة الزمنية نفسها. 7- توجد تباين اجتماعي في الموقف من الديمقراطية، ولا يمكن أن يوجد تجانس اجتماعيّ. 8- يجب على المعطيات الداعمة لنظرية المنشأ أن تغطّي الفترة الزمنيّة السابقة للديمقراطية وأن تمتد لما بعد نشوئها. 9- عند البحث في منطق التحول، يمكن تجاوز الدول التي كان التحول فيها بفعل عامل خارجيّ. 10- يمكن استنتاج نموذج مثالي للانتقال من دراسة حالتين أو ثلاثة، واختبار النموذج بتطبيقه على البقيّة[63].

يؤكد بشارة أنه لا يمكن دراسة الانتقال الديمقراطي في بلد ما دون تجاوز العوامل الخارجية والداخلية معًا، في حالتي النجاح والفشل، لأن ذلك يبين التفاعل بين البنى الخارجية والداخلية، بغض النظر عن مدى إقحام العامل الخارجي، سواء بالتدخل أو بالاحتلال.

يركز روستو في عمله الجديد على التحول التدريجي من السلطوية إلى الديمقراطية، بينما أولى منظّرو الانتقال مثل شميتر ووايتيهد على الشروخ في النخبة الحاكمة داخل النظام السلطويّ والإصلاحات التي تفرض من الداخل. وهو ما تحول لاحقًا إلى قطيعة متبادلة بين عمل أودونيل وشميتر من جهة ولينز وستيبان ودراسات شيفورسكي والمقاربات البنيوية والوظيفية، إذ شدد هؤلاء المنظرون[64] على أهمية إقامة التحالفات في صناعة الديمقراطية، وذلك لتحويل عملية الشدّ مع «النخب الحاكمة إلى معادلة غير صفرية».

يعلم الباحثون في دراسات الانتقال تمام العلم أن انهيار النظام السلطوي لا يعني بالضرورة قيام نظام ديمقراطيّ، ولكنهم جميعهم في بحثهم غائية تأسيس نظام ديمقراطي بديل عن السلطويّ، واتفقوا على ضرورة الإمساك باللايقين الاستثنائي لعملية الانتقال (وهو ما يخيف أي نظام سلطوي يسعى للانفتاح أو الإصلاح، لأن اللايقينة غير مرغوبة)، واتفقوا أيضًا على أنه لا يمكن الاعتماد في حالات الانتقال على «البنى الاقتصاديّة الاجتماعية الثقافية المستقرة في تحليل استراتيجيات الهويات السياسية للسلطة والمعارضة»[65]، وهذا لأن عملية نشوء الديمقراطية «مركبة يشارك فيها فاعلون كثيرون، خلافًا لعملية إسقاط الديمقراطية التي قدم تتم بمشاركة عدد أقل من المتآمرين»[66].  

يختم بشارة الفصل السابع من الكتاب بنتائج دراسات الانتقال بعد عقدٍ على بداية المشروع، مع تعليقه عليها على شكل خلاصات، وكلها هذه الخلاصات مفتوحة للاحتمالات المختلفة وليست صلدة تحكم عملية الانتقال، وبالتالي، فإن هذا يدحض مرة أخرى «وجود نظرية انتقال فضلًا عن برادايم انتقال»[67]، وهذه الخلاصات الإثنيّ عشرة التي توصل إليها شميتر، هي الأفكار ذاتها التي خلصت إليها مناقشة أفكار منظري التحديث ودراسات الانتقال في الصفحات السابقة من الكتاب، وهي كالآتي: 1- الديمقراطية ليست حتمية والعودة عنها محتملة وليست شرطًا للرأسمالية وليست تطورًا أخلاقيًا حتميًا. 2- التحول من الأوتوقراطية إلى الديمقراطية مفتوح الاحتمالات ولا يوجد له مسار ونهاية واحدة. 3- لكل انتقال إيقاعه الخاص، وكذلك لكل ترسيخ شروطه وأسسه. 4- الديمقراطية في عالم اليوم هي الشكل الوحيد للسيطرة على السياسة الشرعية. 5- لا تكون المطالبة بالديمقراطية بمعزل عن مطالبات اجتماعية واقتصادية أخرى. 6- تعتمد نتيجة الدمقرطة على أفكار ونشاطات الفاعلين عند التحولات المختلفة. 7- «من المفضل وجود هوية وطنية مُتماسكة وحدود إقليمية ثابتة ومؤسسة قبل التحول الديمقراطيّ». 8- تصبح الدول أكثر خبرة ووعيًا بالديمقراطية مع تحول الدول الأخرى وموجات التحول العالميّ. 9- أهمية السياق الدولي في التأثير على اندثار النظام السلطويّ. 10- يعمل تدويل الديمقراطية على نشوء مؤسسات ومنظمات حقوق إنسان للدفاع عن الأقليات ومراقبة الانتخابات وتقديم النصائح. 11- نشوء مُجتمع مدني عابر للحدود (وهو ما ينتقده بشارة لأن تلك المؤسسات ستكون مؤسسات غير رسمية، في حين أن المجتمع المدني موجود في قلب جدلية الدولة والمجتمع). 12- من الممكن، وليس سهلًا، التحول من أنماط مختلفة من الدكتاتورية إلى أنماط مختلفة من الديمقراطيّة دون احترام الشروط المسبقة التي وضعها علماء السياسة[68].

يشدد بشارة بعدها في نقاط مختصرة ناقدًا بعض النقاط التي أشار إليها شميتر، فمن وجهة نظرهِ، 1- لا يكون الانتقال الديمقراطي سلميًا دائمًا. 2- حركة الجماهير العفوية المطالبة بالإصلاح دون قيادة منظمة قادرة على التفاوض قد تؤدي إلى نشوء بيئة ترتد عن الإصلاح. 3- يمكن تحقيق التحول دون مستوى عالٍ من النمو الاقتصادي، لكن الحُرية والمساواة في النظام قد تساعدان على دفع عجلة النمو للأمام. 4- يمكن تحقيق التحول دون طبقة برجوازية. 5- غياب الثقافة الديمقراطية في أوساط النخب تشكل عائقًا أمام الانتقال. 6- يمكن تحقيق الديمقراطية دون كثير من الديمقراطيين وذلك عبر تفاعل جماعات غير ديمقراطية لتحقيق مصلحة ما.

يُفرد بشارة الفصل الثامن للحديث عن أثر نوع النظام السلطوي على عملية الانتقال، وأيهما أسهل، مفرقًا بين أنظمة الحزب الواحد والفرد الواحد والأنظمة العسكرية، وشكل الانتقال أحيانًا، ما إذا كان من أعلى أو كان من أسفل، وتأثير ذلك على العملية نفسها، فعندما تركن الأنظمة السياسية السلطوية إلى التحول التدريجي، ثم فرضه الانتقال من أعلى (كما حصل في إسبانيا)، فإن هذه الدول تكون لديها فرصة أعلى في السيطرة على الانتقال، ومواجهة ردات الفعل، وإيجاد المساومات بين الفاعلين سياسيًا، وهذا لاحتفاظ الدولة بهيبتها وقدرتها على التعامل مع الفئات المُختلفة في المُجتمع، ويأتي تفريق بشارة بين أثر النظام ونوعه بناءً على عمل يان تيوريل في كتابه محددات التحول الديمقراطي.

يتعرض بشارة أيضًا إلى نموذج هنتنغتون في مركب الإصلاح من أعلى، والذي يتحدث أشكال التحديث واللبرلة التي تحدث عنها سابقًا في الكتاب والتي تستخدمها الدول السلطوية أحيانًا، ولكنها سُرعان ما تنقلب عليها بخسارتها لسلطتها تدريجيًا، بزيادة وعي المواطنين، ومطالبتهم بمزيد من الإصلاحات والصلاحيات، وحينها يتحول الوضع إلى خيارين إما المواجهة الصعبة والقمع ضد الشعب أو التفاوض معه على آليات تحقيق المطالب «وثمة تنويعات كثيرة لهذه المراحل الأربع، وقد تضاف إليها مراحل أخرى»[69].

يستغل بشارة الفرصة ليوضح قصور نموذج هنتنغتون في توقعه للنماذج بشكل عامٍ بناءً على التجربة العربية، إذ أن الاحتجاجات العادية قد تؤدي أحيانًا إلى انشقاق النخبة أو حصول إصلاحات فعلية أو قد يؤدي خطأ واحد لفرد من أفراد النظام (قتل مواطن/ سوء تعامل مع كارثة) إلى تفجير غضب حانق وانطلاق احتجاجات شعبية مطلبية، والتي تتحول بسرعة إلى مطالب سياسية (تونس مثلًا)[70]. ويشير بشارة إلى أن التجربة العربية قد أثبتت «أن التغيير ليس مرتبطا بطبيعة النظام بموجب تنميط مسبق للأنظمة، بل بقدرتها على استخدام أدوات القمع العنيف ومدى استعداها لتجاوز جميع الحدود»[71].

يُكمل بشارة في الفصل التاسع نقدهِ لمفهوم برادايم الانتقال الجاهز، ويشرح بأن دراسات الانتقال لم تنتج يومًا أي شكل من أشكال النماذج سريعة التحضير والتطبيق في الدول الأخرى، وأن من فعل ذلك هي المنظمات الدولية غير الحكوميّة، أو المؤسسات الحكومية الغربية، وذلك في محاولة استخلاص التجارب واستسهال التوقعات حين التعامل مع الآخر[72].

بنت مثل تلك المنظمات فكرتها عن نموذج الانتقال الجاهز من كتاب أودونيل وشميتر المتوج لمشروعهما: «انتقالات من الحكم السلطويّ: استنتاجات موقتة عن ديمقراطيات غير يقينية» والتي يرى بشارة أن الكلمات في العنوان قد اختيرت بعناية لتنفي وجود برادايم مُحدد.  يوضح أودونيل لاحقًا في نقدهِ لتوماس كاروثرز عدم وجود أي برادايم جاهز للانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية، وهم سبب عنونة مؤلف مشروع الانتقال بـ «الانتقال من الحكم السلطوي»[73].

في الفصل العاشر والأخير من القسم الثاني من الكتاب، يتحدث بشارة عن الدولة الحديثة وتعريفها والقومية والإثنية والأمة والمواطنة وعلاقة كل ذلك بشرعية الدولة. يشرح الكاتب وجود شروط في الدولة الحديثة إلى جانب السلطة السياسية والمحكومين، وبالتالي، فإن الشروط التالية هي المقصود بها الدولة فيما يأتي من الكتاب: 1- دولة تحتكر وسائل العنف الشرعيّ، والقدرة على ممارسة الاحتكار. 2- حدود سياسية وجغرافية يُمارَس الاحتكار ضمنها. 3- شعب يقطن ضمن هذه الحدود وتمثله الدولة رسميًا أمام الدول الأخرى (مواطنين). 4- جهاز بيروقراطي متفرغ ومكلف بإدارة الشأن العام ويعمل لدى الدولة. 5- سلطة تشريعية تسن القوانين السارية[74].

لا يغوص الكتاب عميقًا في تعريف القومية ومكوناتها، إلا بمقدار ما يتعلق بالموضوع، ذلك أن الكاتب سبق أن توسع بالمسألة في مؤلفاته قبل 2010. يشير بشارة إلى أثر وجود الماضي السياسي المشترك عند جماعة معينة بما يشمل من رموز وقيادات ومشاعر «مشتركة بالفخر والحسرة والحزن» [75]بغض النظر عن اختلاف الأعراق في الدولة الواحدة، مثل نموذج سويسرا. يُبنى على هذا الكثير من التعريفات الإثنية المختلفة للقومية، ويُركزّ بشارة على بعدين عند أي دراسة للقومية: البعد الإثنيّ مع تحديدات مختلفة للعناصر المهمة فيهِ (اللغة والإيمان بالأصل المشترك)، والبعد السياسيّ المتعلق بالتعبير عن القومية عن نفسها في الدولة[76].

يشير بشارة إلى أن «الأيديولوجيا القومية» التي يشملها مصطلح Nationalism هي التي تنتج القوميّة وليس العكس، وخصوصًا في حالة القوميات المتأخرة/ المُخترعة. وفي ربطهِ لمفاهيم القومية والديمقراطية، يقول بشارة بأن القومية تتطابق مع الأمة في مراحل التحرر الوطني، وبعد إنشاء الأمة، يتطلب النظام الديمقراطي ولاءً للدولة وليس ولاء للقومية نفسها أو دولة «جميع المواطنين»، لأن الولاء في الدولة الديمقراطية يعني «ولاء مجموعات سكانية كاملة ترى في الدولة وطنًا على الرغم من الاختلاف الإثني الطائفي والجهويّ»[77] وأنه من دون هذا النوع من الولاء، لن تستقر الديمقراطية.

يتحدث بشارة إلى أن التعددية التي استخدمت يومًا ما للتوحيد، قد تستخدم في يوم آخر للتفريق وبناء ولاءات أخرى متفرقة داخل الدولة الواحدة، وهو ما يهدد رسوخ النظام الديمقراطي، وهنا يؤكد بشارة إلى الديمقراطي لا تسبب الشرخ، وإنما تعمل على إظهاره فحسب[78].

وكما أشرنا في المراجعة الأولى إلى ضرورات التفريق بين تعريفات المصطلحات مثل القومية Nationalism (يستخدم للدلالة على الأيديولوجية القومية) يتحدث بشارة في هذا الفصل عن التسميات ويفرق بين القومية والهوية القومية. فنحن حين نقول الهوية القومية العربية تكون ترجمتها Ethnic Nationality أو انتماء إثنيّ Ethnic National Affiliation، ونقول Nationality بدلًا من Nationalism، وهذا لأن الهوية القومية العربية ليست أيديولوجيا أو حركة سياسية، بل انتماء إلى العروبة[79]، والمقصود هنا ثقافة توحد من ينتمون إليها.  يكمل الكاتب لاحقًا للتوضيح بأن القومية أمر، والأمة أمر آخر، حتى وإن تطابقا في بعض الحالات، ومن منظور الديمقراطية يفترض تطابق الأمة مع الدولة، سواء تطابقت الأمة مع القومية أم لا.[80]

في نهاية الفصل العشر والقسم الثاني يفرد الكاتب قسمًا من الكتاب للحديث عما يزعم البعض بأنه «وجه الديمقراطية المُظلم»، وهي فرضية وضعها مايكل مان مستخلصة من تجارب الأرمن في تركيا والهولوكوست في ألمانيا ومذابح راوندا وتشير هذه الفرضية إلى أن جذور الإبادة تكمن في تعميق عملية الدمقرطة أو فشلها، خصوصًا مع زيادة المشاركة الشعبية في السياسة التمثيلية[81]، إذ تعمد الحكومات دائمًا إلى إلصاق صفة الشعبية أو «التفويض» الشعبي ضد الإثنيات الأخرى في الدول. يُشير بشارة إلى أن كل الدول الحديثة وبيروقراطيتها تدعي أنها تنطق باسم الشعب سواء كانت ديمقراطية أو سلطوية، وأنها تعمل له وتمثله وتدافع عنه وتحاربه، وهو ما يفتح الباب لتعريف النظام للشعب[82].

يوضح الكاتب إلى خلط مايكل مان (كما أوضح في الفصول السابقة أن الحروب الأهلية والانقلابات والتخلف الذي حصل لمنع الديمقراطية في بعض الدولة، ليس نتيجة للديمقراطية نفسها) بين «التزامن» و«التأثير المتبادل» و«العلاقة السبب-النتيجة»، إذ أن الدمقرطة لم تؤد إلى عمليات الإبادة الجماعية في أي مكان، وإنما عمليات التحديث، والتي تسمح بتحشيد الطبقات الوسطى لطبقات أخرى من المجتمع على أساس الهويات أو التجانس القومي أو الوطني. «الجينوسايد» وجه آخر للحداثة، مثلما أن الديمقراطية اللبرالية أحد أوجهها الكثير مثل الفاشية والشيوعية.[83]


القسم الثالث

ينطوي القسم الثالث من كتاب الانتقال الديمقراطي وإشكالياته على فصلين، إحداهما يغوص في دور العامل الخارجي عندي عمليات الانتقال، والآخر عن الثقافة السياسية والانتقال الديمقراطيّ. يشير هامش في الكتاب إلى أن فصل العامل الخارجي كان قد نُشر قبلًا في مجلة سياسات عربيّة (أيار 2019)، وأنّ الصيغة في الكتاب مُعدّلة.

العامل الخارجي في الانتقال الديمقراطي

أرسينا في الأسر السابقة تلخيص وتكرار بشارة إلى أن نماذج دراسات الانتقال القائمة على العامل الواحد أو المؤثرات المنفصلة، كلها نماذج تثبت فشلها مع مرور الزمن، لأنها تتناسى تعاملها في النهاية مع فاعلين بشر، وبالتالي، لا يمكن حكم الأمر بقاعدة واحدة، بمعزلٍ عن الأخرى. من هنا، يعيد بشارة تأكيده على أن نتائج العامل الخارجي في الانتقال الديمقراطي لا تتضح دون وضعها إلى جانب العوامل الداخلية وتأثيرها.

أيضًا يبدأ بشارة بالفصل بين تأثير العامل الخارجي على الانتقال، وتأثيره على الرسوخ[84]، وعن سر وجود عامل خارجي لدعم الانتقال في إحدى السياقات، وفي أخرى الدول نفسها، تسعى إلى ترسيخ النظام السلطويّ في دول العالم الثالث عبر الدعم الأمنيّ والعسكري، مُبيّنًا أن العامل الخارجي لا يكون دائمًا مردّه الرغبة في دمقرطة العالم، بقدر ما هو الحفاظ على مصالح الدول الكبرى نفسها[85]. ينتقل بعدها الكاتب إلى أن بعض أنواع العوامل الخارجية قد أثّرت بنيويًا في الاقتصاد والمُجتمع، ولم يعد من المفيد التعامل معها على أنها فقط «عوامل خارجيّة»، مثل التبعية الاقتصاديّة وأثرها على تكوين طبقات مُعينة وأنها مثلها مثل تأثيرات مرحلة الاستعمار، وإن كان منبعها خارجيًا، إلا أنها تصير مع الزمن جزءًا لا يتجزأ من العوامل الداخليّة[86].

يوضّح الكاتب هنا طبيعة العوامل الخارجية المقصودة في الدراسة، فيستبعد انتشار الأفكار الديمقراطية من خلال وسائل الاتصال والتعليم والتأثير والتأثر الثقافيين من المعادلة، على أهميتها، ويُركّز على العوامل الخارجية الفاعلة سياسيًا وآنيًا[87]. توجد دراسات الانتقال حسب وجهة نظر بشارة لمعاجلة صيرورة من شقّين: 1- نهاية الحكم السلطوي. 2- نشوء نظام سياسيّ تعدديّ بتوافق النخب السياسيّة. تكون الأخيرة بغض النظر عن نضج النظام الديمقراطي، وفي هذا السياق تمامًا تظهر أهمية العامل الخارجي «الآني والمباشر»[88].

يستشهد بشارة بالتجربة السُورية، وبصفها واحدة من أكثر الثورات شرعية وعدالة، في سياق صعوبة قياس التأثير الخارجي في حال غياب الشق الثاني من صيرورة دراسة الانتقال، إذ أن سُوريا، وإن كانت فيها محاولة لإسقاط النظام (لم تنجح)، إلا أنها لم تصل إلى مرحلة نشوء نظام سياسي تعدديّ (اُقترحت، ولكنها رفضت من القوى الفاعلة)، وعليهِ فإن التدخلات الخارجية لم تُحسب على أنها مواقف من التحول، بل على أنها مواقف من مسألة سقوط النظام[89]. وفي حديثهِ عن تونس ومصر، فإن التأثير الخارجي كان خافتًا ولم يتعدَ الاتصالات، وهذا في بداية الثورة، أما في مرحلة الانتقال الديمقراطيّ (2011-2013)، صارَ التأثير الخارجي فاعلًا وملحوظًا، وأن هذا التأثير لم يتحول دوره إلى الدور الحاسم، لولا العوامل المحلية[90].

يكتب بشارة ناقدًا هنتنغتون وأمثاله في القائلين بحجة أن الولايات المتحدّة تؤثر على صعود الديمقراطية وهبوطها بمعزل عن الآليات الاقتصادية أو تراكم رأس المال، ويستشهد الكاتب بما قالته لين كارل في إن عددًا من دول أميركا اللاتينية تأثرت سلبًا بالسياسية الخارجية الأميركية في عهد ريغان، ومع ذلك ظهرت فيها ديمقراطيات. توضح الكاتبة أيضًا أن دول جنوب القارة الأميركية استفادت في انتقالها نحو الديمقراطية لغياب التأثير الأميركي، في حين أن دول الوسط، ولقربها من التأثير الأميركي، فقد حافظت على سلطويتها[91].

لا ينفي الكاتب وعلى طول الفصل أثر العامل الخارجِي، حين ردّ تأثيره إلى العوامل الداخلية، بل يحاول تحديد منطق التأثير، فالمؤثرات الإقليمية أكثر فعالية من المؤثرات الدولية في كثير من الحالات، ومثل ذلك دول الجنوب الأوروبي والتي كانت تتطلع إلى الدول الأوروبية الأخرى، وتسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وجاء هذا الانضمام بناءً على تفعيل الشروط المفروضة من الاتحاد، وهي شروط مرتبطة بحقوق الإنسان والحريّات، وقد ساهمت السوق الأوروبية المشتركة بعدها في ديمومة الديمقراطية فيها. «ما عادَ إهمال العامل الخارجي ممكنًا في حالات انتقالات يستحيل معاجلتها في عصرنا من دون فهمهِ»[92].

يُكمل بشارة في هذا السياق، محاولًا ضبط تعريف العامل الخارجي أكثر فأكثر، بوصفهِ أنه يكون في أغلب الحالات «عبارة عن عوامل إقليمية أو بيئة إقليمية»[93]، ويمكن بكل بساطة تلخيص جزئية العامل الخارجي في الاقتباس التالي: «إن موجات الانتقال الديمقراطية من خلال التأثير والجاذبية هي غالبًا موجات إقليمية تتأثر بها شعوب وأنظمة من دول قريبة جغرافيًا وثقافيًا، وأحيانًا تتشابه بنية مُجتمعاتها وأنظمتها. نستثني من ذلك حالات بناء النظام بتأثير قوة احتلال خارجية»[94]. وهنا يربط مباشرة الكاتب بين هذا الرأي والمنطقة العربية القريبة والمتقاربة، ويؤكد أن البيئة الإقليمية فيها كانت وما زالت من عناصر تعقيد صيرورة الديمقراطية فيها.

ينتقل الكتاب من هذه الجزئية، إلى انتهاء الحرب الباردة وتأثيره على السياسة الخارجية الأميركية في دعم الديمقراطية لمواجهة الشيوعيّة، أو حتى أحيانًا دعم دول الاستبداد لتحقيق المآرب والمصالح الدولية، ويشير الكاتب إلى أن الدول الغربية، وخصوصًا الولايات المتحدة غير مُتحمسة لدعم الاستبداد بعد نهاية الحرب الباردة، ولكن هذا لم يعنِ إطلاقًا أنها صارت ميّالة إلى دعم الديمقراطية أو حتى خوض حروبٍ لأجلها[95].

ومثلها مثل كثير من دراسات الانتقال، فقد أخذت أبحاث المنظرين القائمة على العامل الخارجي من تجربة جنوب أوروبا وأميركا اللاتينية مثالًا، لوضع طرائق لموجات الانتقال (عبر التأثير والجاذبية)، وهي حسب وايتهد: 1- الانتشار بالعدوى. 2- الرقابة والسيطرة، مثل شروط دخول الاتحاد الأوروبي. 3-الاتفاق، لا يمكن أن يتوقف على عامل خارجي. واستدراكًا للنقص في هذه الطرائق، قسّمت أدبيات الانتقال التأثير الخارجي إلى صيرورات خمسة: 1- الانتشار المحايد نسبيًا للمعلومات عن الدمقرطة في الدول المجاورة. 2- تعزيز الدول الغربية للديمقراطية عبر الضغط. 3- المشروطية متعددة الأطراف. 4- المعونات الخارجية لتعزيز الديمقراطية. 5- شبكات المنظمات العاملة في مجال المرافعة أو التمكين، مثل الصناديق الأوروبية والأميركية[96].

يؤكّد بشارة غياب العوامل الثلاثة الأولى في المنطقة العربية، وأن العاملين الأخيرين محدودا التأثير، ولكن بالمجمل، فإن مثل هذا الشروط، وإن انطبقت في سياقات أخرى، فإنها لا تنطبق على السياق العربي، إذ لا يمكن استثناء عوامل أخرى أكثر أهمية مثل مصالح الدول الكبرى والظروف العينية لكل بلد في التأثير على صيرورة الانتقال، إما بالدعمِ أو الرفض أو التجاهل، فالموقع الجيوغرافي، والحالة السائدة في أي بلد، تجعل الرغبة في التأثير حاضرة، وقد يكون دعم أو تجاهل الاستبداد أحيانًا أولوية، فالدول التي وقفت ضد الاستبداد بسبب القتل والتهجير في سياقات أوروبية، لم تتدخل مثلًا في حالة سُوريا، رغم تشابه الظروف، وهذا للحفاظ على الحدود الإسرائيلية، والخوف من لا-يقينية المستقبل عند الدعم[97].

يُحيلنا هذا إلى ما كُتب في القسم الأول من الكِتاب، من أن الأنظمة الاستبدادية والسلطوية والشيوعية، تخشى عملية الانتخاب الديمقراطيّ، لأن نتيجتها «لا يقينية» ولا يمكن توقعها أو التنبؤ بها، ويمكننا هنا الإضافة بأن الدول الغربية الديمقراطية نفسها، تخشى لا يقينية الديمقراطية في المنطقة العربية، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بأمن دولة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلية.

يستمر بعدها بشارة في الحديث عن الدور الأميركي في سواء في تراجع أو دعم الدكتاتوريات والسلطويات حول العالم، وأثر التحولات الأميركية في ذلك منذ ما قبل الحرب الباردة إلى الحرب نفسها، وما بعدها، وصعود مُسميات الحرب على الإرهاب لاحقًا، وكيف صارت سياسة الولايات المتحدة الخارجية نفسها لاحقًا سياسة منكفئة ومنغلقة، للحفاظ على حياة جنودها وأموالها، وتحول أميركا فقط لجيش دفاع أو حماية «لمن يدفع» أو Protection Money، وصارت مصالح الولايات في المنطقة العربية، مرتبطة فقط بالنفط وحماية إسرائيل. سمحَ هذا لدول أخرى بالتدخل في المنطقة العربية لتقوية نفوذها عبر دعم الأنظمة السلطوية العربية عسكريًا، وسياسيًا، لتجد لنفسها منطقة تأثير وقوة في المنطقة، مثل التأثير الروسيّ[98] أو الصينيّ في مقابل التأثير الأميركي، ولكن بشارة يؤكد عدة مرات بأن الصين وروسيا حتى هذه اللحظة لا تملك أي نموذج حكم قابل للترويج خارج إطار دولها[99]، وأن عداءهم مع الديمقراطيّة، يرتبط حصرًا في أن تحقيقها يرتبط بالكثير من السياسات اللبرالية الغربية والتي تعد سياسات مفروضة وتحقق تبعية الدول في المنطقة للمحور الغربيّ[100].

عن الثقافة السياسية والانتقال إلى الديمقراطيّة

عند الحديث عن الديمقراطية عربيًا، تتعالى الأصوات بأن العرب ليسوا جاهزين، وأن عليهم أن يطوروا وعيًا سياسيًا ديموقراطيًا تعدديًا وحاضنًا للحقوق والحُريّات كشرط مسبق لتحقيق الديمقراطية نفسها، ويتحدث هؤلاء المدّعون عن وجود ثقافة «عامة» مُتجانسة، وهو أمر لم يحصل حتى في الدول راسخة الديمقراطيّة. في هذا الفصل، يُحطم بشارة مثل هذه الادّعاءات بانيًا على رأيه في الفصول الأولى عن أهمية الفاعل السياسيّ في عملية الانتقال الديمقراطيّ.

يبدأ الكاتب هذا الفصل بوضع تعريف ضابط لمفهوم «الثقافة السياسية السائدة»، وفي نفي شكل العلاقة السببية بين ثقافة الشعب ونظام الحكم الديمقراطي، وفي إن اشتراط وجود «ثقافة شعبية ديمقراطية» قبل وصول الديمقراطية أصلًا، يتقاطع مع الشروط البنيوية عند نظرية التحديث، في حين أن بعض التحديثيون رأوّا أن «التحديث» يزيل هذه العقبة، إذ يرى باي المنظّر باي مثلًا أنّ «القبول التلقائي، شبه الغريزي بفكرة أن الأدنى منزلة يستفيد من الخضوع للأعلى منزلة»[101]، وهذا يعد من القيم الأساسية في الأنظمة السلطويّة، في حين يرى بشارة أن القبول للأعلى منزلة لا يكون شبه غريزيًا، بل هو قائم على القمع الجسدي والنفسيّ وعلى قوة السلطة وهيبتها، وفي نقده لجزئية أن التحديث يزيل العقبة في الدول السلطوية، يؤكد بشارة من جديد على أن التحديث دون المؤسسات الديمقراطية في الدول السلطوية، قد يؤدي إلى تذرر المجتمع إلى عائلات النواة، ويزيد من قابلية الأفراد للخضوع أو يغيرها من الطرق التي قد تنتهي بالرقابة والقمع المضاعف أو الانقسام الأيديولوجي الحاد والانقسامات الطائفية والجهوية[102].

يوضح بشارة في خمسة أسباب عدم اتفاقه مع الرأي القائل إن الثقافة السائدة عمومًا تؤثر مباشرة في مساندة الديمقراطية أو عرقلتها: 1- لا يحمل أي شعب ثقافة سياسية واحدة متجانسة. 2- من الصعب إثبات وجود علاقة سببية واضحة بين الثقافة وطبيعة نظام الحكم. 3- في الدول السلطوية تغيب المشاركة الشعبية في شؤون الحكم والتأثير أصلًا، فكيف يكون الشعب فاعلًا؟ 4- تنظم القيم والعادات والبنى الاجتماعية علاقات الناس ضمن الجماعات وخارجها، أما علاقتها بالدولة الحديثة، فتفرضها الدولة. 5- لا يمكن فهم تأثير القيم والأعراف الاجتماعية بوصفها مكونًا للثقافة السياسية السائدة إلا إذا تفاعلت مع الظروف والمصالح ومع مستوى الوعي القائم[103].

يُشير بشارة إلى أن الثقافة السياسية السائدة المطلوبة في حالة الانتقال إلى الديمقراطية، فيجب أن تكون لدى النخب السياسية بحيث يتوفر فيهم احترام التعددية الديمقراطية وإدارة الاختلاف في حالة من الـ (نحن). أو كما أشار لها مُسبقًا في «دولة جميع المواطنين». هذا النوع من الوعي لدى النخبة السياسية هو اللازم في فترة الانتقال إلى الديمقراطية، وما يعمل على تعزيز هذه القيم شعبيًا بالقدر المُستطاع لاحقًا[104]. وبالتالي، فإن «تغيير الثقافة جذريًا ليس شرطًا يجب على المجتمعات العربية انتظار تحققه كي تحظى بحقوق المواطنة في دولة ديمقراطية. لكن للأسف غالبًا ما يحيد نقاد الثقافة العربية عن هذه المعارك إلى تحميلها مسؤولية غياب الديمقراطية»[105].

من وجهة نظر بارينغتون مور (المنظر التحديثي البنيوي)، فإن التفسير الثقافي يقود إلى نوع من مغالطة الاستدلال الدائري، وفي حلقة مُفرغة في أن النظام السياسي السلطوي هو من ينتج حالة القمع والتخلف أو أن حالة التخلف هي التي تستحق هذا النوع من الحُكم. عالج مور مسارات نشوء الأنظمة السياسية المعاصرة عبر شرح الفارق والتفاوت بين المسارات المختلفة المؤدية إلى الأنظمة المختلفة، وذلك بالاعتماد على العلاقات الزراعية القائمة في كبلد بين الإقطاعيين والفلاحين.[106]

لا يقطع بشارة بغياب دور تأثير الثقافة السائدة، ولكنه يشير إلى الفرق في أهميتها بين مرحلة الانتقال ومرحلة الرسوخ الديمقراطي، واشترط أيضًا في ذلك تحدي مفهوم الثقافة السياسية وتقييده بسياقات وشروط تاريخية، كي لا تكون المُقاربة في كثير من الأحيان تبريرًا للاستبداد أو وسيلة لتجنب نقد الاستبداد[107].

في تأكيده على أهمية الفاعل السياسيّ، يذكر بشارة أن الثقافة الديمقراطي اللازم توفرها لدى النخبة السياسية تتلخص في محورين: 1- القابلية للحوار والمساومة والتوصل إلى تسوية الصراعات سلميًا. 2- اعتبار الإجراءات والمؤسسات الديمقراطية الإطار الأفضل لتسوية الصراعات وحسم الخلافات. يُشير الكاتب أنه وفي المرحلة الثانية من الانتقال، فيضاف عنصريين إضافيين يجب توفرهما لدى النخب: 1- قبول مبدأ المواطنة وما يترتب عليه. 2- الالتزام بالمؤسسات والإجراءات الديمقراطيّة[108].

يختم بشارة القسم الثالث من الكتاب وفي هذا الفصل بالقول إن «سوقَ عدم توفر ثقافة مواتية للديمقراطية في بلدان العالم الثالث تفسيرًا لغياب الديمقراطية، والذي يقوم على “مسلّمة” مضمونها أن هذا النظام قام في الغرب على ثقافة ديمقراطية، يقلب في الحقيقة السببَ والنتيجة»[109]، فالثقافة الديمقراطية السائدة في الغرب، استغرق تحقيقها قرونًا من الزمان من التطور التدريجي للنظام الديمقراطي نفسه.


القسم الرابع

عمل بشارة في الأقسام الثلاثة الأولى على وضع إطار عام يؤدّي في النهاية إلى القسم الرابع، وهو الأهم من الناحية النظرية، والأهم في السياق العربي، وقد قُسِّم إلى أربعة أقسام تُناقش وتستخرج الاستنتاجات النظرية من التجارب العربية في الثورات والهبّات والمطالبات بالانتقال، وتجارب الانتقال في عددٍ من الدول العربيّة. يُفرد الكاتب هذا القسم تمامًا للمشكلة التي أوردها في مقدمة الكتاب، وهي ضعف التنظير لمسألة الانتقال الديموقراطي عربيًا بالانطلاق من المنطقة العربية وتجاربها الفريدّة والخاصّة، دون تعميمات مفروضة من الخارج إلا بما يتناسب مع الحالات.

الفصل والوصل بين الإصلاح والثورة والثورات الإصلاحية

عندما يسمع المرء كلمة ثَورة، فيتمارى إلى ذهنه العديد من الأمور، منها ناس في الشارع وشهداء وانقلاب في نظام الحكم، قتل لرموز النظام القديم، قلب لشكل الحياة، الثورة الفرنسية، الثورة الإسلامية وإلخ. ينطلق بشارة في القسم من الأخير من الكتاب مُستخدمًا هذا الفصل في التفريق و«الفصل» بين المُفاهيم التي سيستخدمها في الفصول القادمة. يُعرّف بشارة الثورة في الكتاب على أنها «أقرب إلى ما تفهمه أغلبية الناس. وهو الانتفاضة الشعبية المستمرة فترة طويلة نسبيًا (بمعنى أنها ليست حدثًا طارئًا أو فعلًا احتجاجيًا واحدًا)، والتي تطالب بتغيير نظام حكم بآخر، حتى لو لم يتغير نمط الإنتاج»[110] أو أنها «تحركًا شعبيًا واسعًا لتغيير نظام الحكم من خارج البنية الدستورية القائمة»[111].

يُشير الكاتب إلى أن دراسات الانتقال لم تتغير بعد دراسة التحولات في المنطقة العربية، وكان يوجد تركيز من الباحثين على علاقة الدين إما بالنفي أو بالتأكيد، حيث ينقل بشارة موقف خوان لينز وألفريد ستيبان في إمكانية التعايش بين الدين والديمقراطية من خلال «التسامحين التوأمين»[112] أو Twin Tolerations[113] والمبني على «التمايز المؤسسي بين الدين والدولة والتسامح مع الدين في المجال العام[114].

يقول لينز وستيبان بوجود شروط للرسوخ وهي سيادة الدولة لتكون قادرة على السيطرة على أراضيها وتوفر بيروقراطية فاعلة وسيادة حكم القانون  ووجود مجتمع سياسي من الأحزاب والقوى السياسية ومجتمع مدني حيويّ ومستقل، وبعد الثورات العربية، أضاف الكاتبان ثلاثة شروط جديدة، وهي أن العلمانية ليست أساسية للانتقال الديمقراطي وأن أغلب الأنظمة العربية التي شهدت ثورات هي أنظمة سلطانية وأنه يتوجب إيجاد تصنيف جديد للأنظمة منطلقة من التجربة نفسها، مثل «السلطوية الديمقراطيّة» كإشارة إلى نظام حكم محمد مرسي[115]، وهو ما يرد عليه بشارة بإمكانية وجود نظام سلطوي هجين أو ديمقراطي هجين، لكن «لا وجود لنظام سلطوي ديمقراطي»[116].

يستمر بعدها بشارة في شرح طبيعة بعض الأنظمة العربية مع التركيز على بعض النماذج لتبيين خصوصيتها وخصوصية البحث فيها، مؤكدًا أولًا على أن دراسات الانتقال لن تتحول إلى نظرية مكتملة لتفسير جميع الحالات إلا بعد أن تصير جميع دول العالم ديمقراطيّة، أي بعد غياب إمكانية وجود أي تجربة أخرى للاستنتاج منها[117].  وأيضًا يكمل بعدها بأن المنطقة العربية وخلافًا لكل الموضوعات التي درستها مشروعات الانتقال الديمقراطي، فإن الاستبداد فيها لم يُتخلص منه  عبر إصلاح تدريجي متخلل بانتفاضات شعبية تعمق من هذه الإصلاحات، بل إن الانتفاضات فيها كانت شعبية وعفوية وشكّلت ردًا على عنفوان الأنظمة الاستبدادية وبطشها، وتحولت دون تخطيط إلى ثورات إصلاحية، أي أنها هذه الحراكات تصرفت مثل الثورات ورفضت سياسات الاحتواء وطالبت بتغيير النظام دون طرح بديلٍ أو تقديم قيادة جديدة جاهزة، وهنا يعتبر بشارة هذه الثورات الإصلاحية لحظة عربية وابتكار عربي[118].

يُفرّق بشارة بين ثلاث مُصطلحات: الثورة والإصلاح والانقلاب العسكريّ. ويعتبر أيضًا أن التمييز بينها وبين الانتقال الديمقراطي مُهمًّا، فشروط انطلاق أية ثورة أو نجاحها ليست شروط الانتقال الديمقراطي، والرابط بينهما هو تأثير نمط الاستبداد والتخلص منه، طبيعة القوى الثورية في مسار الانتقال[119]. ويؤكد أيضًا على أن أي حراكٍ شعبي واسع يصل إلى المطالبة «المثابرة لتغيير النظام من خرج البنية الدستورية القائمة هو ثورة، سواء أدّى إلى ديمقراطية أم لا، وسواء نجح في إسقاط نظام الحكم أم لا»[120].

يسأل بشارة في كتاب المسألة العربية عن سبب غياب أي انشقاق أو فقدان لزمام السيطرة في الأنظمة العربية عندما بدأت فيها الإصلاحات من أعلى مثل باقي الدول الأخرى، ويجيب باختصار بأن «عوائق بناء الأمة هي ذاتها عوائق الديمقراطيّة»[121]، ويلخّصها في الآتي: 1- عدم حل إشكالية العلاقة بين القومية والدولة الأمة. 2- فشل الدولة في دمج الشعب على أساس المواطنة. 3- التقسيمات الاستعمارية وعشوائية الحدود (يمكن الإشارة إلى بقايا الأنظمة الاستعمارية أيضًا). 4- وجود حركات سياسية تنمي ولاءات فوق وطنية. 5- رهان الأنظمة الحاكمة على ولاءات تحت وطنية للنظام الحاكم. 6- خلط الأنظمة بين الولاء لها والولاء للدولة. 7- دور الاقتصادات الريعية[122].

يُشير الكاتب مرات عدّة لضرورة الربط بين استثناء المنطقة العربية بما له علاقة بالدين أو الشعوب، «فما يشهده العالم العربي ليس مواجهة “الإسلاميين والديمقراطيين” بل هو صدام وتواطؤ بين صور متنوعة من الأنظمة الشعبوية»[123]، وفي هذا الإطار يتناول بشارة طرح شميتر عن الاستثناء العربي: 1- الطبيعة الريعية للدولة. 2- منع إقامة مؤسسات وحركات. 3- غياب انبعاث المجتمع المدني (مع حصوله في الجزائر مع الإسلاميين)، ويوضح شميتر عدم وجود علاقة بين ضعف المجتمع المدني والعامل الإسلامي، وإنما له علاقة بطبيعة جهاز الدولة وقدرته على التحكم في مصادر الثورة وتوزيع الدخل[124].

ينتقد الكاتب بشدّة دارسي منظري الانتقال الذين يحاولون تطبيق النظريات الخارجية على المنطقة العربية بافتراض أن الأنظمة السلطوية كانت تمر بعملية انتقال منذ عقود، وبدأت هذه العملية بالإصلاحات قبل انتفاضات 2011[125] مشيرًا إلى أنّ إصلاحات القرن الماضي فيما عدا الجزائر في الدول العربية كانت إصلاحات تكتيكية لاحتواء الأزمات الداخلية أو لمسايرة الأوضاع الدولية[126]، وأوضح ان كثير من هذه الإصلاحات تراجعت عنها بعض الدول مثل البحرين.

لا يعتبر بشارة الإصلاحات في الثمانينات وما قبلها خصوصًا في مصر وتونس أنها دشنّت مرحلة انتقالية، وحتى إن كانت، فهي ليست الانتقال كما هو مفهوم في دراسات الانتقال، بمعنى أنها تؤدي إلى الديمقراطية، وإنما كانت تعديلات في إطار النظام السلطوي، وبالتالي فإن الثورات الإصلاحية ليست جزءًا من تلك المرحلة أو امتداد لها، بل إنها جاءت من خارج ديناميتها، معلنة الرفض للواقع الاجتماعي والسياسي السلطويّ، ولم يحصل الأمر متدرجًا، وإنما مرة واحدة، وطلب قطع العملية القائمة وطرد مغادرة النظام السلطوي عمومًا[127].

عن السلطوية وبناء الدولة في بلدان الثورات العربية

تحدث الكاتب في القسم الثاني من الكتاب قبلًا عن أثر نوع النظام السلطويّ في بناء الدولة وأنماط الانتقال، وهنا، يُفرد فصلًا كاملًا للحديث مرة أخرى عن عنف الدول السلطوية والشرعية واستقرارها. يتناول الكاتب في هذا الفصل البلدان التي نشبت فيها ثورات 2010-2011، ويفصل بين تجارب الدول العربية التي وصلت إلى الانتقال الديمقراطي (مصر وتونس) والدول الثلاثة الأخرى التي تحولت فيها الثورات إلى حروب أهلية (ليبيا واليمن وسورية)، ولا يكون الفصل بين هذين النموذجين فقط، وإنما بين مصر وتونس أيضًا، ويشدد في البداية على «قوة الدولة العربية بشكل عام من زاوية قدرتها على جمع الضرائب مقارنة بالدول المتطورة […] لتبيين الفارق بين قوة النظام وقوة الدولة  إذن قد تأتي سطوة النظام السلطوي على خلفية ضعف الدولة»[128].

يُذكر أن أغلب الدول العربية جاء التحديث فيها على النمط الأتاتوركيّ، أي من أعلى ضد مُلّاك الأرض ورأس المال الأجنبيّ. كان هدف الأنظمة الراديكالية والمحافظة تقوية أجهزة الدولة القمعية وفرض السيادة على الأرض والسكان. تطلب ذلك في بعض الدول إيجاد مجتمعات محلية متنوعة لفرض السلطوية، وتفاقمت السلطوية حين صار بالإمكان تمويل الأجهزة بأموال النفط (لا حاجة للضرائب). وهنا يظهر الفرق بين الدول المركزية والدول الريعية من ناحية وجود بنى وسيطة بين الدولة والمواطن. يُشير بشارة ومن خلال التجربة أن الأنظمة الملكية المحافظة تبدي مرونة أكثر في الإصلاح واحتوائه من دون ان تؤدي هذه المرونة إلى الديمقراطية، وبالتالي تكون أقل عرضة لثورات التغيير، على العكس من الأنظمة السلطوية الراديكالية والتي لا يمكن أن يحدث فيها تغيير إلا من الخارج أو عبر الثورة[129].

يوضّح بشارة بالجداول إلى أن قوة الدولة ونجاعتها تظهر في قدرتها على جباية الضرائب المباشرة، لأن الضرائب غير المباشرة تكون جبايتها أسهل وأقل عدلًا لأنها تكون من المواطن نفسه عبر ضريبة القيمة المضافة وعدد من الضرائب الأخرى. يدفع المواطن الفقير الضريبة على السلع بالمقدار نفسه الذي يدفعه المواطن الغني[130]. يُشير الكاتب إلى أن الدول العربية التي تتصدر قائمة الضرائب المباشرة، هي مصر وتونس، وذلك لأنها الأقوى من حيث البنية المؤسسية وشرعية الدولة[131].

يناقش الكاتب في هذا السياق فرضية نزيه الأيوبي في كتابه «تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط» والتي تقول إن الدولة العربية وعلى الرغم من امتلاكها بيروقراطيات ضخمة، إلا أنها ضعيفة في قضايا جوهرية مثل جباية الضرائب والانتصار في الحروب والهيمنة الأيديولوجية على المجتمع[132]. ينتقد بشارة هذه الفرضية لأن الدولة العربية مع الزمن بنت لنفسها قاعدة اجتماعية عبر الوظائف والقطاع العام والتجنيد وحتى من ولاءات العشائر والقبائل، وقد ظهر هذا في الثورات، حيث لم تتسبب في انهيار، بقدر ما أظهرت الشروخ العميقة في الأنظمة. ويوضّح أيضًا في معرض نقدهِ لمحمد جابر الأنصاري، بأنه ليست كل دولة ديكتاتورية دولة ضعيفة، وهو ما ظهر في مصر، بل هي دولة قومية بأجهزتها والمصالح المرتبطة بها[133]. وبالتالي لا يمكن لأي حركة شعبية مواجهتها دون التساوم والتفاوض معها وتغييرها بالتدريج.

تنبع أهمية الحديث عن النظام ومركباته هنا، لأن كثير من مركبات الأنظمة السلطوية تكون موزعة إما حول الرئيس نفسه، أو العائلة أو الحزب الحاكم مثلًا، مثل الأجهزة الأمنية من المخابرات والجيش. تكون هذه الأجهزة بعيدة وخارجة عن سلطة الدستور والبرلمانات المنتخبة، بمعنى أنّ عملية التفاوض والتساوم في أثناء مرحلة الانتقال لا تكون عبر الانتخابات فقط، وإنما مع تلك الأجهزة، لأنها تكون خارج سلطتها.  يكمل بشارة الحديث بعدها طبقة رجال الأعمال، وعدم تغييبهم أو تجاهلهم في عملية الانتقال، لأن هذا يشعرهم بالتهديد ويدفعهم إلى التآلف مع بنى النظام القديم لإجهاض الانتقال الديمقراطي قبل أن يبدأ[134].

الجيش وتماسك النظام السلطويّ مع ملاحظة عن تشيلي ومصر

يبدأ هذا الفصل من الكتاب بمناقشة تماسك الأنظمة السلطوية وقدرة أجهزتها على القمع والعنف، فيذكر الكاتب ما قالته ثيدا سكوكبول في أن قوة الدولة وتماسكها وفعالية جهازها القمعي لا يحسم نجاح ثورة أو فشلها فحسب، بل قد يكون مقرّرًا بشأن حدوثها من عدمهِ[135]، وهذا ما لا يتفق معه بشارة إطلاقًا، وهذا لأن تفجر الثورات العفوية يخرج عن نطاق تحكم الدولة، أما التعامل معها فيتوقف على تماسك جهاز القمع فيها[136]. ويحاج الكاتب على عكس مقولة «العنف لا ينفع» بأن العنف ينفع النظام إذا مُورس على نحو مثابر ومنهجيّ مع غياب المعوقات المحلية والدولية[137]. وبالتالي، تحاول الأنظمة السلطوية أحيانًا إظهار أقصى درجات العنف لدمغ ذكرى مقيتة في عقول المواطنين تجعلهم يفكرون ألف مرة قبل التفكير في الثورة، وهو ما حصل في سُوريا، إذ لم يُرِد النظام إظهار الرحمة أو التهاون كي لا يبدو ضعيفًا، ولجأ مباشرة إلى العنف، ولكن خطته لم يكن ليكتب لها النجاح لولا 1- التجاهل العالمي لجرائم الحرب المرتبكة، وهنا نشير إلى الديمقراطيات الغربية لم يكن لتعرف نتيجة التحول الديمقراطي، وبالتالي الخوف على حدود إسرائيل، فاتخذت سياسة الانكفاء خوفًا من التنظيمات المتحاربة هناك، وخوفًا من لا يقينية غير محمودة. 2- وجود معارضة سياسية من دون برنامج ديمقراطي. 3- عدم تبلور إرادة الدولة المؤيدة للتغير في سوريا. 4- صعود الخطاب الطائفي[138].

يناقش الكاتب بعدها أهمية دور الجيش في الثورة والانتقال الديمقراطي، وهو ما وضعه شرطًا لإنجاح عملية الانتقال: حيادية الجيش الكاملة في مثل هذه الحالات أو دعمه الكلي أو الجزئي للانتقال[139]، فيقول إن الجيش حين لم يحمِ النظامين المصري والتونسيّ في اللحظة الحاسمة، أدّى إلى تنحي بن علي ومبارك. ويتطرق الكاتب إلى أن سلوك المؤسسة العسكرية يتعلق بعوامل مثل: قرار النخبة الحاكمة والخوف من أن يودي الإصلاح بالنظام كله، بما في ذلك المؤسسة العسكرية[140]. فعندما يرى الجيش أن مصيره مرتبط في النظام (مثل سوريا والصين)، فإنه يتقدم للدفاع عنه، ولكن حين يرى مصلحته بإسقاط النظام أو الرئيس (في حالة مصر ورفض التوريث للابن)، فإنه يتنحى جانبًا أو يساهم في الأمر.

وفي حديثهِ عن مصر وعن سبب الانقلاب على الرئيس المنتخب، يذكر بشارة وجود عوامل عديدة، وكلها تتعلق بالنخب السياسية: 1- شرخ بين النخب السياسية وغياب التوافق وتحويل الاستقطاب السياسي إلى شرخ هوياتي. 2- التعبئة الشعبية. 3- الصراع على السلطة والتركيز على التفرد في الحكم بدلًا من الالتزام ببناء النظام الديمقراطي. 4- ممارسة إخوانية متعالية على القوى السياسية الأخرى[141].

باختصار وفي مقاربة بين ما حصل في مصر وتشيلي، يضع بشارة يده على التشابه بين الحالتين من ناحية تحويل الاستقطاب السياسي إلى شرخ هوياتي والتعبئة الشعبية، وكيف أن جميع الأطراف حين فشلت في التوصل إلى إجماعٍ أو توافق أو ائتلافٍ سلمي فيما بينها ولجوئها إلى الجيش (بصفته الحيادية)، قد أعطت الشرعية دون أن تدري لانقلاب عسكريّ لتعبئة الفراغ الموجود. «جرت معظم الانقلابات العسكرية بعد الانشقاقات في النخبة المدنية وعدم القدرة على إدارة التوافق أو إجماع أو قبل حكم الأغلبية بين النخب المدنية العربية»[142]. ويحاج بشارة في أن كل تاريخ الانقلابات العسكرية العربية، لا يكون الانقلاب دون استدعاء سياسي له من حزب أو أكثر[143].

التعلم من الفرْق: تجربتا مصر وتونس

يضع بشارة في الفصل الأخير من الكتاب تفسيرًا للفرق بين نتائج الانتقال في مصر وتونس، وكيف أن هذا الفرق قد يصلح في التأسيس النظري لبعض قواعد الانتقال عربيًا. يشرح بشارة في بداية الفصل فشل نظرية التحديث وأسبابها البنيوية في تفسير الفرق من خلال مجموعة من الجداول التي تبين أن مؤشرات التحديث بين البلدين ضئيلة[144]. ويوضح الكاتب أن العوامل المسببة للفرق بين التجربتين تتمثل في الآتي: 1- دور الجيش ومدى تسييسه. 2- الثقافة السياسية عند النخب الحاكمة والمعارضة. 3- التفاوت في الوزن الاستراتيجي بين البلدين[145].

يوضح بشارة أن الجيش المصري وعلى الرغم من اتخاذه موقفًا رافضًا لقمع الحراك الثوري مثل الجيش في تونس، إلا أن لم ينحز للشعب، بل انحازَ إلى المؤسسة العسكرية لأنه وعلى خلاف الجيش التونسي، «عرف أدوارًا أمنية وسياسية سابقة، واحتفظ بطموحات سياسية كما يبدو»[146]. وكما أن الجيش في حالة تونس، انسحب وعاد إلى ثكناته بعد تنحي بن علي، لم يقم الجيش المصري بالأمر نفسه، بل خرج عن طاعة مُبارك، وتسلم هو مقاليد الحكم في المرحلة الأولى من الانتقال الديمقراطي. بعدها، اضطر الجيش في مصر إلى تسليم السلطة للمدنيين لتحديد مواعيد الانتخابات. ولكن وعندما فشلت النخب السياسية في التوصل إلى الإجماع أو التسوية السلمية فيما بينها، ومحاولتها لخطب ود الجيش، أدّى هذا إلى القيادة العسكرية للاعتقاد بأنها الوحيد القادرة ضمان الاستقرار في البلاد[147].

يعلل بشارة الإشكالية الأساسية المتعلقة بالحوار والمساومة والاتفاق بين النخب في مصر بالآتي: 1- ضعف الثقافة الديمقراطية للنخب. 2- تأثير أسلوب تغيير النظام على سلوك النخب، خصوصًا لو كانت ضعيفة التجربة السياسية أو أنها لم تتحل بثقافة ديمقراطية. 3- الوقوع في فخ الشعبوية، وخصوصًا عندما ترفض الأطراف المنتخبة تقديم التنازلات بعد فوزها لاعتقادها أنه وبمجرد حصولها على أغلبية ضئيلة، يمكنها التصرف كما لو أنها في ديمقراطية راسخة[148] (وهو الفشل في عقد الائتلافات والتسويات والمساومات مع البنى القائمة).

وفي إشارة إلى أهمية التفاوت الجيوستراتيجي بين مصر وتونس، وهو ما تحدث عنه بشارة في فصل «العامل الخارجي في الانتقال الديمقراطي»، فإن وزن تونس أقل من وزن مصر من ناحية التأثير في المنطقة والاهتمام العالمي والإقليمي، وهو ما وفّر على تونس تدخل قوى معادية للديمقراطية لعرقلة عملية الانتقال[149].

في نهاية الفصل، يعدد بشارة بعض الاستنتاجات النظرية: 1- لا ينجح الانتقال الديمقراطي إذا عارضه الجيش أو إذا كان لدى الجيش طموحات في الحكم. 2- ضرورة التزام القوى السياسية الرئيسة بالإجراءات الديمقراطية. 3- لا يمكن حكم دولة في مرحلة الانتقال بأغلبية ضئيلة بوجود معارضة قوية ومؤسسات نظام قديم تعارض الانتقال. 4- كلما زاد الوزن الجيوستراتيجي، زاد وزن العوامل الإقليمية والخارجية، خصوصًا لو كانت معادية للديمقراطي، فهذا يعني زيادة التأثير السلبي للعامل الخارجي[150].


[1]  ضبطًا فلسفيًا.

[2]  عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته، دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، 50.

[3] Johannes Fabian, Time and the Other: How Anthropology Makes Its Object (New York, NY: Columbia Univ. Press, 2014).

[4] عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته، دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، 26.

[5]  المصدر السابق نفسه، 27.

[6] ينتمي مع دانيال ليرنر مستشرق آخر على ذات وجهة النظر وهو دانيال بايبس، اللذين يعتبران أن الطريق الوحيد لخروج العالم العربي إلى الحداثة يمر من خلال التحرر من الإسلام

[7]   Seymour Martin Lipset, «Some Social Requisites of Democracy: Economic Development and Political Legitimacy,» American Political Science Review, vol. 53, no. 1 (March 1959), p. 69, accessed on 25/2/2020, at: http://bit.ly/2Ml0Lnp

[8] عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته، دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، 50.

[9] Dankwart A. Rustow, «Transitions to Democracy: Toward a Dynamic Model,» (Comparative Politics, vol. 2, no. 3 (April 1970), pp. 337-363, accessed on 25/2/2020, at: http://bit.ly/2nxFetW

[10] عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته، دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، 52.

[11]  المصدر السابق نفسه، 54.

[12]  المصدر السابق نفسه، 69.

[13] Adam Przeworski, «Capitalism, Development, and Democracy,» Brazilian Journal of (Political Economy, vol. 24, no. 4 (October-December 2004), p. 488, accessed on 26/2/2020, at: http://bit.ly/2o3upQx; Lipset, Political Man; Przeworski & Limongi, pp. 155-183.

[14] عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته، دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، 76.

[15] المصدر السابق نفسه، 85.

[16]  المصدر السابق نفسه، 87.

[17] المصدر السابق نفسه، 90.

[18]  ناقش بشارة هذه القضية في كتابه المسألة العربية في الفصلين السادس والثامن.

[19] المصدر السابق نفسه، 96.

[20] المصدر السابق نفسه، 97.

[21] المصدر السابق نفسه، 107.

[22] Giuseppe Di Palma, To Craft Democracy: An Essay on Democratic Transition (Berkeley, CA: University of California Press, 1990), p. 17.

[23]  عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته، دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، 121.

[24]  المصدر السابق نفسه، 123.  أفرغ له بشارة مشروعاً بأكمله يضم ثلاث مجلدات لتفكيك وتوضيح التدين وأنماط التدين وعلاقتها بالديمقراطية تحديداً في الجزء الأول، وهي بالأساس فكرة نشأت لدى بشارة في عام 1994 في دراسة له ضمن كتاب حول الخيار الديمقراطية وهذا المشروع يعتبر امتداداً لها.

[25]  المصدر السابق نفسه، 125.

[26]  المصدر السابق نفسه، 140.

[27]  المصدر السابق نفسه، 132.

[28]  المصدر السابق نفسه، 134.

[29]  المصدر السابق نفسه، 135.

[30]  المصدر السابق نفسه، 141.

[31]  المصدر السابق نفسه، 173.

[32]  المصدر السابق نفسه، 173.

[33]  المصدر السابق نفسه، 191.

[34] المصدر السابق نفسه.

[35] المصدر السابق نفسه، 204.

[36]  «المصطلح الفلسفي نشأته وتطوره في الفكر الإسلامي،» موقع جامعة الفيومي، تم فتح الموقع بتاريخ 20/10/2019.

[37]  عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، 209.

[38]  المصدر السابق نفسه، 210.

[39]  وهنا تأتي أهمية هذا الكتاب من وجهة نظر د. عزمي، وأهمية مشروعه الكامل في التنظير للمنطقة من داخل المنطقة، والسعي للانتقال الديمقراطيّ، بوصفهِ مسعىً إنسانيًا، وبوصف الديمقراطية حلّا لمشاكل المنطقة، وأن تطبقها ليس مستحيلًا البتّة.

[40]  المصدر السابق نفسه، 210.

[41]  Rodolphe Gasché, The Tain of the Mirror Derrida and the Philosophy of Reflection (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1997).

[42] Paul De Man, “The Resistance to Theory,” Yale French Studies, no. 63 (1982).

[43]  عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، 211.

[44]  المصدر السابق نفسه، 212.

[45] المصدر السابق نفسه، 213-214.

[46] المصدر السابق نفسه، 216.

[47] Terry Lynn Karl & Philippe C. Schmitter, «Modes of Transition in Latin America, Southern and Eastern Europe,» International Social Science Journal, vol. 43, no. 2 (1991), p. 270.

[48]  عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، 222.

[49] المصدر السابق نفسه، 223.

[50] المصدر السابق نفسه، 223.

[51] المصدر السابق نفسه، 224.

[52] Adam Przeworski, «The Last Instance: Are Institutions the Primary Cause of Economic Development?,» European Journal of Sociology, vol. 45, no. 2 (2004), p. 168, accessed on 3/3/2020, at: http://bit.ly/2Zd14bo

[53] عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، 226.

[54] المصدر السابق نفسه، 229.

[55]  حسن الحاج علي أحمد، «مراحل انتقال الثورات العربية: مدخل مؤسسي للتفسير»، في: أطوار التاريخ الانتقالي: مآل الثورات العربية (الدوحة/بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015)، 67.

[56]  عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، 231.

[57]  المصدر السابق نفسه، 232.

[58]  المصدر السابق نفسه، 236.

[59]  المصدر السابق نفسه، 241.

[60]  المصدر السابق نفسه، 244.

[61]  المصدر السابق نفسه، 243-246.

[62]  المصدر السابق نفسه، 249-252.

[63] المصدر السابق نفسه، 253-254.

[64] مشروع الانتقال الديمقراطي عبر ثلاث مؤتمرات وانتهت إلى عدة كتيبات.

[65] O’Donnell & Schmitter (eds.), Transitions from Authoritarian Rule, vol. 4, p. 4-5.

[66] Ibid., p. 18.

[67] عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، 281.

[68]  المصدر السابق نفسه، 281-284.

[69] المصدر السابق نفسه، 301.

[70] المصدر السابق نفسه، 302.

[71] المصدر السابق نفسه، 302.

[72] المصدر السابق نفسه، 309.

[73] المصدر السابق نفسه، 314

[74]  المصدر السابق نفسه، 327-328.

[75]  المصدر السابق نفسه، 330.

[76]  المصدر السابق نفسه، 330.

[77]  المصدر السابق نفسه، 334.

[78]  المصدر السابق نفسه، 343.

[79]  المصدر السابق نفسه، 345.

[80]  المصدر السابق نفسه، 346.

[81]  المصدر السابق نفسه، 352.

[82]  المصدر السابق نفسه، 353.

[83]  المصدر السابق نفسه، 354.

[84]  عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته، دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، 364.

[85]  المصدر السابق نفسه، 364.

[86]  المصدر السابق نفسه، 365.

[87]  المصدر السابق نفسه.

[88]  المصدر السابق نفسه، 366.

[89]  المصدر السابق نفسه، 367.

[90]  المصدر السابق نفسه.

[91]  المصدر السابق نفسه، 370.

[92]  المصدر السابق نفسه، 373.

[93] المصدر السابق نفسه، 374.

[94]  المصدر السابق نفسه.

[95] المصدر السابق نفسه، 378.

[96] المصدر السابق نفسه، 380.

[97] المصدر السابق نفسه، 381.

[98] المصدر السابق نفسه، 391.

[99]  المصدر السبق نفسه، 398.

[100] المصدر السابق نفسه.

[101] Lucian W. Pye, «Political Science and the Crisis of Authoritarianism,» American Political Science Review, vol. 84, no. 1 (March 1990), p. 9, accessed on 28/3/2020, at: http://bit.ly/2weogbF

[102] عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته، دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، 409.

[103]  المصدر السابق نفسه، 409-410.

[104]  المصدر السابق نفسه، 411.

[105]  المصدر السابق نفسه.

[106]  المصدر السابق نفسه، 415.

[107]  المصدر السابق نفسه، 418.

[108]  المصدر السابق نفسه، 419.

[109]  المصدر السابق نفسه، 433.

[110]  عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطية وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة، (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، 449.

[111]  عزمي بشارة، في الثورة والقابلية للثورة، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014)، 34.

[112] Juan J. Linz & Alfred Stepan, «Democratization Theory and the ‘Arab Spring’,» Journal of Democracy, vol. 24, no. 2 (2013), p. 17, accessed on 9/3/2020, at: https://bit.ly/2JkLsZ2

[113]  تترجم أحيانًا إلى التسامح المزدوج.

[114] عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطية وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة، (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، 441-442.

[115]  المصدر السابق نفسه، 442.

[116]  المصدر السابق نفسه.

[117]  المصدر السابق نفسه، 443.

[118]  المصدر السابق نفسه، 446.

[119]  المصدر السابق نفسه، 450.

[120] المصدر السابق نفسه، 451.

[121]  المصدر السابق نفسه، 455.

[122]  المصدر السابق نفسه، 455-456.

[123]  المصدر السابق نفسه، 457.

[124]  المصدر السابق نفسه، 460-461.

[125]  المصدر السابق نفسه، 464.

[126] المصدر السابق نفسه، 469.

[127] المصدر السابق نفسه، 470-471.

[128]  المصدر السابق نفسه، 479-480.

[129]  المصدر السابق نفسه، 480-481.

[130]  المصدر السابق نفسه، 482-485.

[131] المصدر السابق نفسه، 486.

[132]  نزيه الأيوبي، تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، ترجمة أمجد حسين، مراجعة فالح عبد الجبار (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2010).

[133] المصدر السابق نفسه، 496.

[134] المصدر السابق نفسه، 502.

[135] Theda Skocpol, States and Social Revolutions: A Comparative Analysis of France, Russia and China (Cambridge: Cambridge University Press, 1979), p. 31.

[136] عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطية وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة، (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)،510-511.

[137]  المصدر السابق نفسه، 511.

[138]  المصدر السابق نفسه، 512.

[139]  المصدر السابق نفسه، 514.

[140]  المصدر السابق نفسه، 513.

[141]  المصدر السابق نفسه، 520-521.

[142]  المصدر السابق نفسه، 526.

[143]   المصدر السبق نفسه، 527.

[144]  المصدر السابق نفسه، 530.

[145]  المصدر السابق نفسه، 535.

[146]  المصدر السابق نفسه، 535-536.

[147]  المصدر السابق نفسه، 537.

[148]  المصدر السابق نفسه، 538.

[149]  المصدر السابق نفسه، 548.

[150]  المصدر السابق نفسه، 550.

أضِف تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s