نعيش في عالم متغيّر، والدهر قُلّب. نعيش في أسرٍ مُتفككة، وعلاقات اجتماعية لا تتجاوز سنًا يستحق الاحتفال بهِ. نعيش في ظل حروب عسكرية، وحروب نفسيّة. فقر وقمع واضطهاد في كل مكان. قمعٌ في الشارع، وقمع في الجامعة وقمع في المدرسة وقمعٌ في البيت. كل هذا، يظهر أثره على الفرد، ثم على المُجتمع. كلنا قابلنا في حياتنا أشخاص لا «يُخطؤون» ولا يعتذرون البتّة. وكلنا قابلنا أشخاصًا أحببناهم لأن اعتذاراتهم كانتْ من القلب، وكلنا نُحب حتّى الاعتذارات المؤدبة عن بعض الأمور التي لا تعد أخطاءً. بعد كل هذا، يمكننا أن نقف جميعًا لحظةً وأن نتذكر ذلك الشخص الذي نجده يعتذر قبل أن يبدأ الحديث، ويعتذر في منتصف حديثه مليون مرة، ويعتذر بعد حديثه خوفًا من الإزعاج. هذا الكائِن الذي يخاف أن يكون ثقيلًا أو تشويشًا، والذي يخاف أن يتعدى حدوده مع الأشخاص الذين يحبهم قبل غيرهم. هذا الشخص الذي يجب أن نحتمله أكثر من غيرهِ. هذا الشخص الذي سأتحدث عنه في هذه المقالة.
الاعتذار أمر طبيعي للغاية حين التعود عليهِ، ولكن الاعتذار المُتكرر على كل صغيرة وكبيرة بل يكاد يصل أحيانًا لـ «الاعتذار عن الوجود» حسب البروفيسورة في علم النفس بيج كرامبيو، وتقول إن هذا الأمر قد يكون أثرًا للصدمات Traumas، وعليهِ قد تكون تقنية للحفاظ على الذات يستخدمها الناجون ظنًّا منهم أنها تفيدهم في حماية أنفسهم. الصدمات التي تتحدث عنها البروفيسورة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالعلاقات العاطفية والعائلية، حيث يشعر الشخص في أثناء الحدث الصادم أن عليهِ الاعتذار المُتكرر لإرضاء الطرف الآخر، ولكن غالبًا تنتهي مثل هذه العلاقات نهايات مأساوية، حتى في حالة العائلة، إذ تنطوي على حقد أو عدم قدرة على التصالح.
يعود الأمر مُباشرة إلى المرحلة الأولى في العلاقة مع الآخر (المُعتدي) والذي يستغل كل أمر في سلطتهِ (لو كان إحدى الوالدين، فيستخدم سلطته الأبوية، ولو كان في علاقة، الطرف الأقوى سيستغل تعلّق الآخر بهِ) لتمزيق الطرف الأضعف أو جعله يشعر بانعدام القيمة. وتشير كرامبيو أن التعرض لإهانات لفظية يوميًا قد يعمل على برمجة الحلقة الأضعف على المدى الطويل لتشعر بأنها عديمة القيمة. وتوضح كرامبيو أنه وبعد خروج الشخص من هذه البيئة السامّة، فإنه يشعر بالحاجة المُلحّة للاعتذار عن كل صغيرة وكبيرة، خصوصًا في العلاقات الجديدة، مهما كان شكل هذه العلاقات (عاطفية/صداقة/عمل).
كما أشرتُ أعلاه، فإن ضحية الاعتداء التي تستخدم جملة «أنا آسف/أعتذر/سامحني» على الدوام، يعني أنه ما زال أمامها بعض الخطوات للتشافي من الاعتداءات والصدمات الماضية. يستخدم الناجون من الصدمة هذه التقنية لتجنب ردات الفعل السلبية من الشركاء أو الأصدقاء بوصفها «سدًّا للذريعة»، وأقصد في الماضي. تكون ردة الفعل الاعتذارية آلية، خوفًا من أي ردٍّ مُهين أو خوفًا من العنف اللفظي أو الجسدي من المعتدي.
تشير كرامبيو أن ردة الفعل الاعتذارية تنتشر عند الجميع، ولكنها عند النساء أكثر، حيث تشعر النساء بالحاجة الملحة للاعتذار، في حالة غياب أي شكل من أشكال الاعتداء، وهذا بسبب الوصمة الثقافية في المُجتمعات بأنه لا يجدر بالنساء أن يتحدثن عمّا يشعرن بهِ، وبالتالي يعتذرن بعد مشاركة أفكارهن بعد حديثهن.

هل الاعتذار المُتكرر سلبيّ؟
• في كتابها «قوة الاعتذار»، تذكر المعالجة النفسية بيفرلي إنجل أن كثرة الاعتذار لا تختلف كثيرًا عن المبالغة في الإطراء: نشعر حينها أننا نظهر بصورة الشخص اللطيف والمُهتم والشاعر بالآخر، ولكننا في الحقيقة نبعث برسالة له أننا نفتقد للثقة بالنفس، ولا يكون الأمر فعّالًا كما نأمل. قد تكون ثقتنا بأنفسنا عالية، ولكن أثبتت دراسات مسحية عديدة أن الآخر يتلقى هذا الفعل «تلقائيًا» على أنه ينم على ضعف في الشخصية ومشاكل في الثقة بالنفس.
• هذا الأمر يُعطي للآخر إذنًا «تلقائيًا» ليعاملك بطريقة سيئة، وبل وفي بعض الأحيان ليعتدي عليك مرة أخرى، أو اعتداءً جديدًا، لو كان الشخص الآخر في هذا السياق ضمن علاقة جديدة.
• يعمل الاعتذار المُتكرر على تخفيف قيمة الاعتذارات المستقبلية وقت الحاجة لها، فيشعر الآخر بأن اعتذاراتك لا تعني شيئًا.
• تكرار الاعتذار حتى لو كان من شخصٍ يحاول أن يكون لطيفًا، قد يؤدي مفعولًا معاكسًا، ويكون مزعجًا ومستفزًا للغاية. وأظهرت دراسة نشرت في مجلة فرونتيرز سايكولوجي أن قول الشخص لـ «أنا آسف» في أثناء عملية رفضهِ (الانفصال) تجعل الآخر يشعر بالسوء حيال نفسه أكثر، ويشعرون بالضرورة للرد على ذلك الاعتذار إما بالقبول أو بالرفض، وفي الحالتين يكون مُكرهًا، وفي الحالتين، تكون الإجابة سيئة على الصعيد النفسي له.
• كما أشرتُ أعلاه، فإن الاعتذار المتُكرر يظهرك للآخر على أنك ضعيف الثقة بالنفس، ولكن التأثير الأمر لا يتوقف هنا، بل أحيانًا يعمل على تخفيض مقدار الثقة بالنفس. تشير دراسة نُشرت في مجلة علم النفس الاجتماعي الأوروبي أن اختيار «عدم الاعتذار» له فوائد نفسية عديدة، أفادت الدراسة نفسها أن رفضهم يكون علامة على «ثقة عالية بالنفس» وتزيد هذه الثقة مع الاستمرار في عدم الاعتذار وتعلم قول «لا»، لأن هذا الأمر يشعر الشخص بأنه يتحكم في حياتهِ وفي أقواله وأفعاله.

كيف نتوقف عن الاعتذار؟
ما كتبت أعلاه ليس للتقليل من معاناة ضحايا الاعتداءات والاستغلال أبدًا، وإنما للتوعية حول الموضوع، خصوصًا أنّي شخصيًا أعاني من هذه المشكلة، ولكنّي عندما صرتُ واعيًا لها في المرحلة الماضية، بدأت بالتدريج في خطوات التشافي من الموضوع، وأضع هنا بعض النقاط التي تساعد على ذلك حتى لو من بعيد. كل النصائح لن تسدي نفعًا إذا لم يقرر الشخص نفسه (الناجي) أن يبدأ في هذه الخطوات داخله رأسه، فالموضوع كله بالنهاية قرار.. أنت من تُقرر ومن تحدد للآخر كيف يعاملك. تنازلك مرة.. ثم مرة… يعني أنك تفتح الباب له ليتخذك مطية. أن تقول لا. أن تتعلم كيف تعتذر، يعطيك مساحتك، ويجعل منك صاحب شخصية قويّة.
• الوعي بالذات: راقب تصرفاك وأفعالك أكثر. هل تعتذر بشكل متكرر؟ يساعدك هذا على مراقبة سلوكياتك وتقييمها والشعور بأثرها حتى قبل تنفيذها، وبالتالي، القدرة على التحكم في هذا النوع من الأفعال والأقوال.
• أن تعرف ما تعتذر عنه وما لا تعتذر عنه: إذا كان الأمر خارج عن قدرتك وسيطرتك، وأنت والآخر سواء، لا تعتذر عن الأمر. اجعل اعتذاراتك ذات قيمة، واعترف بالأمر حين تكون مُخطئًا. لا نقول لك بألّا تعتذر أدبًا، ولكن الآخر لا يس متأدبًا دائمًا، وقد يأخذها منك على إشارة ضعف. لا تلمح له بذلك.
• عوِّد نفسك قول «لا»: كثير منا خوفًا من الفقد أو الحرمان لا يقول «لا» ويجد نفسه في مواقف كثيرة غير مريحة تؤثر على صحته النفسية. هذا النوع منّا، قد يضحي بوقته وراحتهِ لأجل أشخاصٍ لا يحترمونه أصلًا، ولكنه يحاول الفوز بهِم. تعلّم قول «لا»، لأنك صحتك النفسية أولى.
• تخفّف: هذه النصيحة تعلمتها من صديق غزيّ هنا في الدوحة. لا تكن خائفًا من خسارة الأشخاص الذين تكون خسارتهم مكسبًا. اسأل نفسك سؤالًا: هل يضيف هذا الشخص لي أي شيء؟ إذا كانت الإجابة لا، فتخفف منه. لا تخسره للأبد، ولكن تخفف منه. قيد علاقتك معاه. أعلم أن الأمر ليس بهذه البساطة، ولكن الكثير من الأشخاص في حياتنا لا يفعلون شيئًا في حياتنا إلا جعلنا نشعر بالسوء حيال أنفسنا، ولا يجب أن يكون لهم مكان في حياتنا. تذّكر: أنت خلاصة الأشخاص الخمسة الذين تحيط نفسك بهم. اختر بعناية هؤلاء الخمسة.
• لا تتردد في طلب المساعدة: المُساعدة ليست للتخلص من الاعتذار، لأنه أحد الأعراض، وإنما للوصول إلى جذور المشكلة النفسية (الصدمة) وعلاجها مع أخصائي نفسي. هذا النوع من العلاج الاحترافي يساعدنا على تجاوز المشكلة وأثرها الدفين على حياتنا وعلاقاتنا ويساعدنا على إقامة علاقات صحيحة مُستقبلًا.
• استخدم أفعال التأكيدات الذاتية: تحدث إلى نفسك وكن لطيفًا معها. قل بينك وبينك نفسك أنك شخص جيد. أنك لا تؤذي. أنك تهتم. أنك قويّ. أنك سعيد. أنك تستحق. أنه لا يجدر بك الاعتذار. كرر هذا الأمر، حتى تخف الأعراض لديك.

خِتامًا، في هذه المادة تناولت الأمر من ناحيتين، من ناحية الشخص المُعتذر نفسه، ومن الآخر في العلاقات الجديدة وكيف يتلقى الأمر. ما ذكر في المقالة ليس تبرئة لنا جميعًا، بل دعوة لنا لنكون لطفاء مع الجميع. إذا ما واجهت يومًا شخصًا كثير الاعتذار، فإياك أن تقول له «توقف عن الاعتذار»، لأن هذه الجملة تستفزهم أكثر وتثير غضبهم حسب البروفيسورة بيج كرامبيو. النصيحة هنا، أن تتحدث مع ذلك الشخص (ليس بعد اعتذار له) حديثًا من القلب إلى القلب وأن تخبره بمقدار حبّك له واهتمامك بهِ، وأنك حقًا لا تنتظر منه اعتذارًا لأنك تعرفه جيدًا. بهذه الطريقة وعلى المدى الطويل، يمكننا أن نساعد ضحايا الاعتداءات السابقة أن يطوروا ثقتهم بأنفسهم وأن يتجاوزوا الحدث الصادم في ماضيهم.
هي النصيحة ذاتها دائمًا: كُن لطيفًا، فأنت لا تعلم مقدار قوة أو ضعف الآخر، ولا تعرف ما مرّ به في حياتهِ، فلا تحكم، ولا تشعر بالتهديد من شخصًا ما أكثر إنسانية منك. قد تكون إنسانيته نتيجة كل الصدمات التي مرّ بها. الشخص الذي أمامك عايش صدمات واعتداءات عدّة، ولكنه بقيّ على قيد الحياة، فإياك أن تفترض أو أن تحكم عليهِ. لا تهاجمه ولا تلمه. فقط كن لطيفًا. كن لطيفًا.. محدّش طايقك. كن لطيفًا، فأنت لا تعلم ما هي الكلمة التي ستدفعه نحو الهاوية. كثيرون انتحروا من كلمة خاطئة أو من معاملة سيئة أو من عدم احترام مستحق. كن لطيفًا، وفكّر بغيرك.
مُلاحظة:
يمكنك تحميل هذه الإضافة إلى غوغل كروم، والتي تتبع مقدار اعتذارك في الإيميلات، وتنهبك له، وتحذرك من المبالغة في الاستخدام كي لا تبدو ضعيفًا أو مُخطئًا.
المراجع:
احسنت ، من كثرة الاعتذار قد نجد أنفسنا أما اموات أو لا شيء والبعض لا يستحق ، الشيء الذي يستحق الاعتذار عنه هو النفس في ظل إعطاء أمور لا أناس لا تستحق شيء ….. لك التوفيق
إعجابLiked by 1 person
شُكرًا لك ميّادة.
إعجابإعجاب