قصة: كيس الذكريات


طُردت قبل فترة من الوظيفة رقم 32، وكان السبب: عدم اهتمامي بالعمل. العمل يضجرني. لا شيء يُحفزّني. قررت بعدها أن أجوب العالم بحثًا عن قصص. صرتُ أُصاب بالنشوة عند سماع قصص وتجارب الآخرين. بي رغبة عارمة للسؤال عن تجارب الناس وحياتهم، ولا أتحدث عن خصوصياتهم، وإنما ما يعايشونه. جُبت العالمَ بحثًا عن تلك القصّة. القصة التي تتفوق على أية قصة أخرى. قبل شهرين، شددت رحالي، وذهبتُ من فيتنام في طيارة مُباشرة إلى القاهِرة. أقنعت ناشري بشق الأنفس أن يموّل رحلتي، وأخبرته عن خيطٍ قصةٍ تستحق أن تُكتب. وصلتُ إلى هناك، واستأجرتُ غرفة فندقٍ في شارع طلعت حرب. فندق اللوتس. أخبرني عنه صديق مصريّ قبل عشرين عامًا. كان متواضعًا، فلستُ أحب البذخ أبدًا. اتصلتُ بالعائلة، وأخبرتهم بقدومي إليهم في عصر اليوم التالي. ردوا عليّ بالإيجاب، وأنهم سعداء بزيارتي.

كذبتُ على ناشري طبعًا، فإلى جانب رغبتي في كتابة رواية عن القصة أو سكربت فيلم، إلا أن الذاكرة البشرية والعقل البشري يدهشانني جدًا في طريقة عملهما غير المتوقعة. أحب أن أسمع من أناس حاربوا الذاكرة وحاربتهم.

كان أحمد لاعب كرة سريعة، وحاز عدة جوائز على مستوى مصر والعالم. وقبل عدة سنوات كان في طريق عودتهِ من إحدى المنافسات، وبعد الاحتفال بالفوز، قرّر الاستحمام في مقر النادي، ودخل إلى هُناك، ولكنه تأخّر. تروي الأم: «بقينا ننتظر لفترة طويلة وخفنا أن يكون قد أصابه مكروه، فأرسلنا بأخيه ناحية الباب، ولكن ولحظة وصوله إلى الغرفة، سمع صوت ارتطام»، كان أحمد قد تسمم بغاز أول أكسيد الكربون من سخّان المياه، ووقع مغشيًا عليه، أو هكذا ظنوا. اتصلوا بالإسعاف، وأنقذوه في آخر لحظة، ولكنّه دخل في غيبوبة استمرت لثلاثة أيام، ولم يستطع الأهل أن يحددوا ما إذا كانت الغيبوبة مُستحثة أم طبيعية، ولكن نسبة الغاز التي استنشقها، تقتل الإنسان عادة، إلا أنه بقي حيًا. تقول الأم إن في الأمر مُعجزة. لا أدري كيف رأت ذلك. المُعجزة ألا يحدث هذا كله. نعم، بقي أحمد حيًا، ولكن لا يتذكر أي أمر في آخر سنتين في حياتهِ أولًا، وثانيًا، أُصيب بفقدان الذاكرة قصيرة المدى، فلم يعد قادرًا على تخزين ذكريات طويلة الأمد. تخيل أن تبقى حيًا، ولكنك لا تذكر أكثر من ثلاثةِ ثوانٍ. مُتعب هذا الموضوع. خفتُ أن اسأل بعض الأسئلة، فقد كانت العائلة مُحافظة إلى حدٍّ ما. تساءلتُ في داخلي، ماذا لو أن أحمد قد التقى بحبيبته في العامين المنصرمين؟ كيف سيعيد استرجاع اللحظة والتعرف عليها؟ خصوصًا أن البدايات عشوائية، ولحظة واحدة قد تفرق بين القبول والرفض. أضف إلى ذلك أن أحمدًا لا يتذكر أكثر من ثلاث ثوانٍ. ثم تعود الذاكرة إلى نقطة البداية لها. تعود ليحتفل بفوزه.

لوحة ذُهان للفنان خالد جرادة

لم تستسلم العائلة. ولم يستسلم مدربه أيضًا. يقول بأنه كان قبل كل مباراة يُحضّره له، ولكنه ينسى تمامًا، وعند دخوله إلى أرض المباراة، وعلى الرغم من مسح ذاكرته المؤقتة، إلا أنّ الذاكرة الحركية لديهِ كان تقوم بالواجب، ويلعب ويفوز. خضع أحمد للكثير من تمارين الذاكرة. صار يتذكر لاحقًا لخمسة دقائق.. ثم عشرة… ثم خمسة عشرة، وهذا أبعد ما حققه حتى الآن. لم يبقَ أحد حوله إلا أهله ومن تمكنوا من الصبرَ على الغرابة. أقول دائمًا أن أسوأ عقابٍ قد يحظى بهِ أحدهم، هو أن تعامله كغريب بعدَ أن كان قريبًا جدًا منك. بِمَ شعر أصدقاء أحمد الجدد قبل الحادثة؟ حبيبته؟ زملاء الدراسة؟ تخيّل أن تعرّف عن نفسك يوميًا عليهِ! في جلستي معه التي امتدت لأكثر من تسعِ ساعات، عرفّت عن نفسي أكثر من عشرين مرة. طبعًا في الأمر ميزة. كنت كلما سألته سؤالًا فِي فترة ما، يجيبني عليه إجابة مُختلفة حسب تذكره ونسيانه. كان ينسى الأسئلة المستفزة، ويستقبلني كل مرة بترحابٍ عالٍ. قبل قدومي إلى مصر بأيّام، كان أحمد قد تخرج من الجامعة. لا أدري كيف فعلها. يخبرني صديقه أن بعض المحاضرين كانوا يعتقدون أنه يكذب. ولكن مرة أخرى من، حسن حظه أنه ينسى. الإنسان من وجهة نظري ليس إلا ذاكرة تحمل جسدًا. كيف يمكن أن تعيش دون ذاكرة؟ تنام، ولا أي ذكرى تصير ذكرى دائمة. هل هناك مُتعة؟ هل يتغير موقف الإنسان من الحياة؟ تخيل أن تبقى عالقًا في عامٍ مُعين، وأن تصحو كل يومٍ لتجد أن دماغك قد قام بعمل إعادة ضبط للمصنع. صفحة جَديدة. تخرّج أحمد من الجامعة ويستمر الآن في الفوز في بطولات الكرة السريعة، ولكنه ينسى. ينسى أنه تخرج. ينسى أنه يفوز. ينسى أنه ينسى. ينسى أصدقاءه الجدد. ينسى الأحداث. تخيّل أن تبقى عالقًا؟ هل هناك متعة ونشوة في النسيان؟ لستُ أدري. آليت الانسحاب في النهاية. تعبتُ من التعريف بنفسي مرة تلو الأخرى. كان الأمر أشبه بانتظار بوابة تفتح مرة كل فترة قصيرة، وعليك ان تستغل هذه الفتحة قبل أن تغلق. هل هو عالق فعلًا أم حُر من الذاكرة؟ هل تفوق أحمد علينا هُنا؟ هل صار أكثر من إنسان؟ ما زالت عائلته تواصل تمارين الذاكرة معه. كيف له أن يتمرن أكثر؟ بعد عشرة أعوام، ستصل ذاكرته عشر ساعاتٍ مثلًا. ولكنه ينام، ويصحو. ثم كل شيء يعود إلى نقطة الصفر. نقطة المسابقة التي فاز بها قبل الحادثة.

أرسلتُ المسودة إلى الناشر، ووافق عليها. أحاول الآن إكمال الكتابة. ولكن الرواية دائمًا تعود مثل ذاكرة أحمد إلى نقطة لا يمكنني الكتابة فيها ولا عنها. منطقة خارج اللغة. خارج الإنسان. كيف تكتب ما لا تتذكره؟ نحن لا نعيش في الحاضر فعليًا، بل في الماضي، والحاضر رؤية سابقة بثوانٍ أو أعشار من الثانية لما نقوله أو نكتبه. الحاضر، رؤية تجميعية. كيف يعيش من لا ماضٍ له؟ كيف يتشكل وعيه عن الحاضر؟ توقفت عن الكتابة. أرسلتُ النص إلى الناشر. قلتُ له أن ينشرها كما وصلته. تعبّر الرواية عن الحادثة نفسها، ولا يمكنني الارتجال أو التخييل. كانت هذه آخر قصة أسافر لأجلها. آخر قصة أطلبها. آخر قصة أكتبها.


* النص أعلاه مبنيٌ على قصة حقيقية للشاب المصري أحمد النادي، ولكنّي أضفت الكثير من العناصر التخييلية للنص، وهذا لعدم اطلاعي على تفاصيل القصة منه. بمعنى أن الحادثة حقيقية، ولكن التفاصيل في القصة خيالية.

أنس سمحان

الدوحة – 20 مايو/أيار 2020.

رأيان حول “قصة: كيس الذكريات

أضِف تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s