قصة: كيس الذكريات

طُردت قبل فترة من الوظيفة رقم 32، وكان السبب: عدم اهتمامي بالعمل. العمل يضجرني. لا شيء يُحفزّني. قررت بعدها أن أجوب العالم بحثًا عن قصص. صرتُ أُصاب بالنشوة عند سماع قصص وتجارب الآخرين. بي رغبة عارمة للسؤال عن تجارب الناس وحياتهم، ولا أتحدث عن خصوصياتهم، وإنما ما يعايشونه. جُبت العالمَ بحثًا عن تلك القصّة. القصة التي تتفوق على أية قصة أخرى. قبل شهرين، شددت رحالي، وذهبتُ من فيتنام في طيارة مُباشرة إلى القاهِرة. أقنعت ناشري بشق الأنفس أن يموّل رحلتي، وأخبرته عن خيطٍ قصةٍ تستحق أن تُكتب. وصلتُ إلى هناك، واستأجرتُ غرفة فندقٍ في شارع طلعت حرب. فندق اللوتس. أخبرني عنه صديق مصريّ قبل عشرين عامًا. كان متواضعًا، فلستُ أحب البذخ أبدًا. اتصلتُ بالعائلة، وأخبرتهم بقدومي إليهم في عصر اليوم التالي. ردوا عليّ بالإيجاب، وأنهم سعداء بزيارتي.

كذبتُ على ناشري طبعًا، فإلى جانب رغبتي في كتابة رواية عن القصة أو سكربت فيلم، إلا أن الذاكرة البشرية والعقل البشري يدهشانني جدًا في طريقة عملهما غير المتوقعة. أحب أن أسمع من أناس حاربوا الذاكرة وحاربتهم.

متابعة قراءة “قصة: كيس الذكريات”

لعبة الاسم – نص

اسمي ليس صعبًا. وليس مربكًا. اسم واضح. لا يحتاج إلى تشكيل لتقرأه. فقط ألف ونون وسين. ثلاثة أحرف بسيطة. لو بدأته بالضم أو الفتح، لو أضفت واوًا في المنتصف. لو أضفت ياءً بعد الألف. كلها توصل إلى المعنى ذاته: من الأنس عكس الوحشة وهو كل ما تأنس به القلوب وتألفه وتطمئن به. ولكن، يعجبني كيف يلعب الناس بالاسم أحيانًا، سواء عن خطأ أو عن قصد.

أول فتاة عبرت لها عن إعجابي بها قبل أكثر من عشر سنوات، ردت علي: «أنس يا أنس. عندما أقرأ اسمك يحضرني النسيان لا الأُنس». لا أذكر كيف أثر الموقف بي، ولكني كلما تذكرته الآن أضحك. رفض ثقيل، ولكن محترم. واللعبة في الاسم. أنا النسيان.

يكتب لي الأصدقاء أحيانًا رسائل على تطبيقات المراسلة، ويبدؤون باسمي: «أنس»، لأكون صريحًا، تخيفني الرسائل التي تبدأ بالاسم دون كلام بعدها. أو تأتي بصيغة الطلب أو تأتي بصيغة الإشعار: أريد التحدث إليك في موضوع مهم. على كل حال. مما لاحظته أن الأصدقاء، واللاأصدقاء أيضًا، يقعون في خطأ طباعي بين الفينة والأخرى. بدلًا من اسمي، يكتبون «أمس» ثم يكملون دون تعديل، وأنا الذي إذا كتبت كلمة بدون همزة أعود وأعدلها. أتوقف عند هذه الكلمة. الفرق في الأبجدية العربية أن حرف الميم يسبق النون. وأنس، الأنيس، أما أمس، فالحرف سابق، واليوم سابق، صرت حدثًا منقضيًا. تخيل أن يكون اسمي «أمس»؟ أو البارحة؟ يبدو الأمر سخيفًا، سأتوقف.

كان بعض الطلاب وأنا في الصف السادس الابتدائي يلعبون كرة القدم (باحتراف حسب مخيلتي)، ولا يتيحون لي المجال لألعب. توجهت إلى أستاذ حصة الرياضة وشكوتهم. رافقني إلى الملعب وأجبرهم على إدخالي. تضايق الزملاء. خربت عليهم لعبتهم. أتتي كرة قوية، وصددتها برأسي وجاءت «غوول». يصرخ شخص من الفريق الآخر ساخرًا: «الله عليك يا عبد الرؤوف شعبان»، لا أدري لِم اختار هذا الاسم. ربما لأنه يشبه أسماء اللاعبين المصريين، ولكن أعجبني، وصار اسمًا بديلًا عندما لا أريد التعريف بنفسي وباسمي الحقيقي أمام البعض. ما اسمك؟ عبد الرؤوف شعبان. يصاحبني الاسم منذ أكثر من عشرين عامًا.

«أسامينا، شو تعبوا أهالينا. تَلاقوها، وشو افتكروا فينا». تغني فيروز. لديّ إيمان ساحق أن أغلب الأسماء تُطلق خبط عشواء. يريدون اسمًا للوليد. ما رأيكم بوليد؟ ما رأيكم بأنس؟ ما رأيكم بمحمد؟ (اسم فريد وبديع). أصدق بين الفينة والأخرى أنّ لكل إنسان من اسمه نصيب، ولكن ليس هذا حكمًا مُطلقًا؟ على كل حال، أكره كثير من الأسماء، ويبدو الأمر غير عقلانيّ، ولكن قابلت صفات ترتبط في الأسماء أحيانًا.ماذا عنّي أنا؟ أنا الأنيس والنسيان، أنا اليوم والبارحة، دون غدٍ. أنا عبد الرؤوف شعبان.

متابعة قراءة “لعبة الاسم – نص”

قصة قصيرة: طاولة لإثنين

طاولة لإثنين

مؤخرًا، لم أعد أرى من هذه المدينة إلّا ظلامها وصرت أحس بها تضغط على صدري كشبح جاثم لا يفكر بالنهوض. أقرب صورة تستحضرني حين أفكر أنني ما زلتُ فيها، هي صُورة بريطانيا في بداية الثورة الصناعية. مدينة يكسوها الضباب الأسود على مدار الساعة، فلا أفق ولا مهرب. كأن فوقها غمامة كبيرة غير مرئية تمنع وصول الضوء إليها.

الساعة الآن الثالثة إلّا ربع، ولدي موعد في استراحة الباقة التي تطل على البحر الساعة الخامسة، مع صديقي محمود والذي صرتُ أراه على وتيرة متصلة بعد حادثة فقدٍ معينة ألمّت بنا معًا. كأننا اتخذنا عهدًا على أن نبقى قريبين من بعضنا البعض. يتوّجب عليّ الخروج الآن من البيت لأن الطريق لوحدها إلى ذلك المكان تستغرق مني ساعة على أقل تقدير. أرتدي حقيبة الظهر، وأخرج من البيت.

فِي الماضي، وفي أثناء دراستي الجامعية كانت هذه الطريق هي مكاني الوحيد والحقيقي للقراءة، وأذكر بأن أغلب ما قرأت، كان في الطريق بين الجامعة والبيت. كنت أصحو من نومي في الساعة السادسة وعشر دقائق، وأكون أمام البيت في انتظار الحافلة في الساعة السادسة وعشرون دقيقة. أركب الحافلة… أضع سماعات الأذن، وأفتح الشنطة وأخرج منها الكتاب المرافق. قضيت أربع سنين على هذا المنوال، ولا أذكر يومًا بأني كنت واعٍ لما يحصل في الطريق أو ما هي محطاته. كانت الحافلة تتوقف من بيتنا إلى الجامعة أكثر من مائة مرة لتحمّل في طريقها الطُلّاب، ولا أذكر أي وقفة منها. كنتُ عندما أفتح الكتاب وأغوص في عالمهِ وأتوقف عن الوجود في هذا العالم. كنت كمن يدخل في حالة اسقاط نجميّ. أتذكر كل الكتب وكل عناوينها وكل عوالمها وتفاصيلها، وفي الوقت نفسهِ وعلى سبيل المفارقة، لا أعي أي شيء من تفاصيل هذا العالم. بدأت تلك الغمامة المظلمة بالتشكل حسبما أتذكر مع بداية القراءة، حينما بدأت أعي مكاني في هذا العالم (إن كان لي مكان أصلًا).

متابعة قراءة “قصة قصيرة: طاولة لإثنين”

صندوق رمل (قصة قصيرة)

قد يبدو اللا شيء تجربة جيدة لمن لا يدخلها ولا يعرفها، وقد تبدو تجربة مثيرة لأولئك الذين يعيشون بقلب طفلٍ ينتظرون تجارب الحياة الجميلة. أولئك كلهم ما زالوا يعيشون في المرحلة الأولى، أما أنا فقد قفزت حتى الهاوية. لم يكن قفزًا عن تلك التجارب، وإنما قفزٌ عن إعادتها. في كل تجربة هناك نفس المراحل. أنا أوفر على نفسي عناء التجربة، وأقفز للخاتمة. هل يبدو هذا فعل رجلٍ عاقل؟

لم تتغير الساعة على الحائط. توقفت قبل ثلاثةِ أعوامٍ على الساعة العاشرة، ولم أفكر يومًا بأن أغيّر لها بطاريتها أو أنظر ما بها. تعجبني الساعة العاشرة. على الأقل تبقى الساعة هي الشيء الوحيد الذي يعطيني ما أتوقعه كلما نظرت أو احتجت إليه. كم مضى على عدم خروجي من هذا المكان؟ لا أدري، رُبّما شهرٌ أو أقل أو ربما أكثر، لا أتذكر. لا أرى الشمس أبدًا. أتعفن في سريري كما أنا. أعرف النهار من عواء الكلب خارج المنزل على بائع الحليب الذي يأتي كل صباحٍ، وأعرف الليل من بومٍ يقف كل يوم عند نافذتي المغلقة محاولًا دخول البيت. أقف. أنظر للمرآة. أرى شبحًا. أرتعب قليلًا، كما في كل يومٍ قبل أن أتذكر بأن هذا الشبح هو شبحي، ثم أعود للنومِ مُجددًا. أو لأحتضن الأوراق المترامية هنا وهناك محاولًا كتابة شيءٍ ربما يحاز على إعجابي، ولا سبيل.

أعلمُ أن الوقت الآن صباحًا. سمعتُ الكلب يعوي خارجًا. اسأل نفسي، هل أنهض من السرير؟ هل هناك ما يستحق فعلًا؟ أقرر بأني سوف أخرج اليوم لأرى كيف صار العالم خارجًا. أو ربما لأزور البلدية التي أرسلت لي للمرة المليون على التوالي إشعار إخلاء لأجل فتح شارعٍ في مكانِ المنزل. أو ربّما لأذهب وأرمي بنفسي من فوق أي نهرٍ أو برجٍ وأنتهي. لكن انتحاري يعني انتصار البلدية، وأنا لا أريد ذلك. قد أكون أعلنت انسحابي من العالم. أما أن أنسحب وهناك معركة قائمة؟ هذا لستُ أنا. على الأقل بقي لدي بعضٌ مِنّي أريد المحافظة عليهِ. أو ربمّا نهاية أبقى في البيت ولا أتعب نفسي بأي تفكير خارج هذا الصندوق. لن تكون البلدية قادرة على هدم منزلٍ مرخّص أو ربما ليس مرخصًا، لم أثق بوالدي يومًا. عندما يأتي وقت الهدم، مؤكد سيبعثون بإشعار إخلاءٍ إجباري، أو تهديد. حينها فقط سأفكر فيما سأفعل. أما الآن فعلي الاستعداد لنومي وقت الظهيرة.

متابعة قراءة “صندوق رمل (قصة قصيرة)”