قد يبدو اللا شيء تجربة جيدة لمن لا يدخلها ولا يعرفها، وقد تبدو تجربة مثيرة لأولئك الذين يعيشون بقلب طفلٍ ينتظرون تجارب الحياة الجميلة. أولئك كلهم ما زالوا يعيشون في المرحلة الأولى، أما أنا فقد قفزت حتى الهاوية. لم يكن قفزًا عن تلك التجارب، وإنما قفزٌ عن إعادتها. في كل تجربة هناك نفس المراحل. أنا أوفر على نفسي عناء التجربة، وأقفز للخاتمة. هل يبدو هذا فعل رجلٍ عاقل؟
لم تتغير الساعة على الحائط. توقفت قبل ثلاثةِ أعوامٍ على الساعة العاشرة، ولم أفكر يومًا بأن أغيّر لها بطاريتها أو أنظر ما بها. تعجبني الساعة العاشرة. على الأقل تبقى الساعة هي الشيء الوحيد الذي يعطيني ما أتوقعه كلما نظرت أو احتجت إليه. كم مضى على عدم خروجي من هذا المكان؟ لا أدري، رُبّما شهرٌ أو أقل أو ربما أكثر، لا أتذكر. لا أرى الشمس أبدًا. أتعفن في سريري كما أنا. أعرف النهار من عواء الكلب خارج المنزل على بائع الحليب الذي يأتي كل صباحٍ، وأعرف الليل من بومٍ يقف كل يوم عند نافذتي المغلقة محاولًا دخول البيت. أقف. أنظر للمرآة. أرى شبحًا. أرتعب قليلًا، كما في كل يومٍ قبل أن أتذكر بأن هذا الشبح هو شبحي، ثم أعود للنومِ مُجددًا. أو لأحتضن الأوراق المترامية هنا وهناك محاولًا كتابة شيءٍ ربما يحاز على إعجابي، ولا سبيل.
أعلمُ أن الوقت الآن صباحًا. سمعتُ الكلب يعوي خارجًا. اسأل نفسي، هل أنهض من السرير؟ هل هناك ما يستحق فعلًا؟ أقرر بأني سوف أخرج اليوم لأرى كيف صار العالم خارجًا. أو ربما لأزور البلدية التي أرسلت لي للمرة المليون على التوالي إشعار إخلاء لأجل فتح شارعٍ في مكانِ المنزل. أو ربّما لأذهب وأرمي بنفسي من فوق أي نهرٍ أو برجٍ وأنتهي. لكن انتحاري يعني انتصار البلدية، وأنا لا أريد ذلك. قد أكون أعلنت انسحابي من العالم. أما أن أنسحب وهناك معركة قائمة؟ هذا لستُ أنا. على الأقل بقي لدي بعضٌ مِنّي أريد المحافظة عليهِ. أو ربمّا نهاية أبقى في البيت ولا أتعب نفسي بأي تفكير خارج هذا الصندوق. لن تكون البلدية قادرة على هدم منزلٍ مرخّص أو ربما ليس مرخصًا، لم أثق بوالدي يومًا. عندما يأتي وقت الهدم، مؤكد سيبعثون بإشعار إخلاءٍ إجباري، أو تهديد. حينها فقط سأفكر فيما سأفعل. أما الآن فعلي الاستعداد لنومي وقت الظهيرة.
تلكَ اللعينة الغبية نور، لم تحضر إلى منزلي منذ شهرينِ على خلافٍ بسيطٍ. كانت كل مهمتها أن تأتي إلى سريري، لكنها أصرّت أن تخرجني من المنزل معها لترى العالم. أخبرتها مرارًا، بأنه ليس من اختصاصها، وأنها ليست إلا رفيقة سرير، لكن الفتيات الحمقاوات لا يمكنهن إقامة أي علاقةٍ دون إدخال المشاعر فيها. في آخر مرة أتت، لم تتوقف عن الحديث حول العالم والمدينة، وكلما حاولت إسكاتها بخلع ملابسها عنها قاومت أكثر، وأيضًا أبت الخروج من المنزل. نهايةً اضطرتني لأوافقها في فكرتها. غيرتُ ملابسي، وحلقتُ ذقني للمرة الأولى منذ مدة طويلة، لدرجة أنني لم أميز نفسي أثناء الحلاقة. أعطيتُ نفسي ثلاث ضربات بالموس، رُبّما خطًا، وربما عن عمد، لا أدري. كانت تنتظري عند باب الغرفة. كانت مبتهجة جدًا. قلت لها: «من بعدك،» وانطلقت سعيدة صوبَ الباب تركض. فتحت الباب وخرجت. وفور خروجها. أغلقتُ الباب، وقمت بتأمينه بقوّة. حمقاء. ظنّت بأني سأخرج. لا يكفي بأنها قد أخرجتني من سريري، تريد إخراجي من منزلي أيضًا. ولأي هراء؟ لأرى العالم. كأن هناك شيء ليرى. نفس النفاق، ونفس البشرِ. قد يتغيّر البشر، لكن الطباع لا تتغيّر. قد تتغير المنازل، لكن البشر لا يتغيرون. قد تتغيّر كل ملامح المدينة في يومٍ لكن يبقى شيء واحد لا يتغيّر، هو أنهم كلهم تعساء.
عاودت نور الطرق على الباب لساعات، أما أنا فرميت ملابسي التي ارتديتها وعدتُ إلى سريري مُجددًا. توقف الطرق. وبقيت أنا. وفي اليوم التالي، لم يأتِ أحدٌ إلى البيت، ولا اليوم الذي يليهِ. الأكل في المنزل يشارف على الانتهاء، والحليب فقط هو الذي يتجدد كل يومٍ. كانت مسؤولية نور أن تحضر لي الأكل في طريقها، ولكن يبدو أنّ ما فعلته بها هذه المرة قد جرح كبريائها. كيف تجرح كبرياء عاهرة؟ أخبرتها مرارًا، بأن له دورٌ واحد منوطٌ بها، وعليها ألّا تتجاوزه، وإلا فستجرح. أنا لستُ سيئًا. أنا فقط أخاف على نفسي من التعلق بأي شيْ فانٍ. أحاول أن أبعد الجميع عني بتصرفات مثل هذه. أحيانًا أستثقل الأمور التي أقوم بها، ولكن أستمر. أخبرت الجميع بأني لا أريد أي تواصل بشري، ولكنهم لا يتوقفون عن العودة مُجددًا. أنا استسلمت عن إصلاح نفسي، فلماذا لا يستسلم العالم؟
مرّ أسبوع، ولم تأتِ نور. بطني جائع، وهناك أجزاء أخرى من جسمي جائعة أيضًا. أحاول الاتصال بها، ولكن خطّ التلفون مقطوع. لوهلةٍ هممتُ بالخروج. حاولت أن أفتح إحدى النوافذ، ولكن لفتح النوافذ، يستوجب عليّ فتح الستائر. خرجت من السرير متثاقلًا. هذه المرة الأولى التي أترك السرير دون أن اسأل نفسي، ما إذا كان هناك أي شيء يستحق أن أقوم من أجله. اتجهت نحو النافذة، ورفعت الستائر بيدي قليلًا، فإذا بنور الشمس يعمي من شدتهِ. تراجعت للخلف من الفزع وتعثرت بشيء ما وسقطت على رأسي. صحوتُ بعدها بساعات. نظرت إلى الساعة وكانت الساعة العاشرة. أتذكر بأني حينما حاولت فتح النافذة كانت الساعة العاشرة أيضًا. يبدو بأني غبت عن الوعي اثنتي عشر ساعة. أعلم بأن الساعة متوقفة لكني أحب الأجواء الدرامية. ولو سألني أي أحد عن الموضوع لقلتُ بأني قررت الخروج من المنزلِ، ونظرت للمرآة قبل فعل هذا، فرأيت بومًا عملاقًا يجثم على كتفي، فأفزعني، مما جعلني أجري في المنزل مثل الأبله إلى أن تعثرت قدمي ببعضها وسقطت. وسأشرح السقطة بالتصوير البطيء، وكيف اصطدمت بالأرض وكيف فقدت وعيي لنصف يوم. متأكد بأني لم أغب لأكثر من ساعة، لكني أحب الكذب لأضيف بعض التشويق إلى حياتي. حتى وأنا أعيش لوحدي، أحاول أن أخلق هذا الوهم بأن حياتي ليست كما هي. أقف وأتوجه للمرآة. أمسحها وأنظر باحثًا عن ذلك البوم.
أحاول تذكر شكل نور قليلًا حتى أكون قادرًا على الاستمناء. لكن ملامحها تبدو ضبابية الآن، ولا أتذكر إلا ملمسها. أسبوع واحد فقط كان كفيلًا بمحي كل شيء يتعلق بها. لهذا أطلب منها أن تزورني على وتيرة شبه يومية. لم أفلح. تبوّلت ثم عُدت إلى سريري مُجددًا. كان قرار فتح النافذة قرار فاشل، مثل كثير من القرارات التي اتخذها، والتي لا تدوم إلا لدقائق، قبل أن أفقد الحماس لأقوم بها.
بقيتُ دون أتحرك لمدة بدت طويلة. البرد قارص في هذا الشهر. لا أعرف في أي شهر من العام تحديدًا، لكن الذاكرة البيولوجية تؤكد أن هذا فصل الشتاء. استجمعت ما بقي في جسمي من طاقة لأصل إلى الموقد لأشعل نارًا تدفئ المنزل قليلًا، ولكن لم يكن هناك أي أخشاب. توجهت للمكتبة، باحثًا عن كتب لم أحرقها بعد تساعدني في تقضية هذه الليلة. هنا كتاب نيتشة إنسان مفرط في إنسانيته الجزء الأول. لقد حرقت الجزء الثاني قبلًا، حيث لا يمكن لأحدٍ أن يقرأ الجزء الثاني دون الأول، وبالتالي سأحرق الثاني وأبقي على الأول. كتاب آخر لنيتشة. أفول الأصنام. ترجمة هذا الكتاب سيئة، ولا يمكنني أن أسمح لأحدٍ ما أن يوسخ عينيه بقراءة هذا الكتاب. لكنه صغير ولن يكفي. أكمل البحث. وجدت كتاب أصل الأخلاق لنيتشة أيضًا، لم يعجبني، لكنه قد يفيدني الليلة؛ لكنه أيضًا لا يكفي. على حافة الرفّ، كانت رواية يوليسيس لجيمس جويس. هذه الرواية الذي لم أعرف أي أحدٍ قد أتمها قبلًا. الرواية في 800 صفحة، وتكفي لإقامة حفل كاملٍ. أقصد طبعًا حفل شواء. بدأت بقراءتها قبل أعوام، ولكني لم أتمكن من إتمامها أيضًا. لماذا لم أحرقها قبلًا؟ تذكرتُ بأني في كل مرة حاولت أن أحرقها أقول في نفسي، ماذا لو أبيدت كل البشرية أو انقرضت؟ أو غرقت؟ ألا تستحق الأجيال القادمة أن تتمتع بشيء من تراثها؟ أضع نفسي موضع المنقذ. هل يستحق التراث الإنساني أن يعيش؟ لماذا أوجع رأسي بكل هذه الأسئلة؟ حملت الرواية وتوجهت إلى الموقد. أضرمت النار بدءًا بأفول الأصنام. هذه أقل ما تستحقه الترجمة السيئة. أن تحرق هي ومترجمها. بدأت بإشعال الغلاف من عند اسم المترجم. ثم أتبعت ذلك بأصل الأخلاق. تشتعل النيران في الأوراق الصفراء بسرعة. وحينما أردت أن أرمي برواية جويس، استثقلت الأمر مجددًا. حتى هذا القرار لم أستطع أن أستمر فيهِ. نظرت إلى العلامة في الكتاب والتي تشير إلى أين وصلت. سأحرق ما قبل العلامة وأبقي على ما بعدها، علّي عدت يومًا ما إلى إكمالها. أمزق الورقة الأولى، فتصيبني نشوة من نوعٍ ما. مزقت الثانية ثم الثالثة. عدتُ وقتها إلى غريزة من نوع ما. أخرجت النار من الموقد ووضعها على صينية في منتصف الغرفة. خلعت كل ملابسي ولبست شباحي كحفَاضة طفل قماشية. وصرت أدور حول النار في دوائرٍ وأنا أمزق الكتاب وأرمي الورق في النار. لم أشعر بالحياة من قبل كما أشعر بها الآن. بدأت بإصدار الأصوات التي رأيت الهنود الحمر يصدرونها في أحد الأفلام الوثائقية. لم يكن هذا كافيًا. كانَ على الموقد شفرة، فسحبتها وجرجت كتفي واستخدمت الدم في رسم دوائرٍ حمراء على جسدي، وأكملت ما كنت أقوم بهِ. استغربت أن دمي ما زال أحمرًا بعد كل السجائر التي دخنتها في حياتي. همدت النار، ووصلت إلى العلامة. البرد يقرص مُجددًا. عدتُ مسرعًا تحت الغطاء.
لم أدخن أي سيجارة اليوم، ولو خرجت مُجددًا من تحت الغطاء سأموت متجمدًا، ومن حسن حظي أن علبة السجائر تحت الوسادة. أخرجت العلبة، ولففت سيجارة، وبدأت أدخن. لم أجرب يومًا التدخين تحت الغطاء. سحبت نَفسًا طويلًا كأني أدخن للمرة الأولى منذ عقود ثم نفثت. شعرت بالدفيء في هذه اللحظة كما لم أشعر طوال الليل. استمررت في التدخين إلى أن فقدت الشعور. لم أختنق، ولكني فقدت الشعور بالمكان.
صحوت في اليوم التالي على صوت طرق الباب. عادت نور مُجددًا يبدو. كان الجو خانقًا. الأرضية مليئة بالأوراق المحترقة ونصف المحترقة. مرتبة السريرة مشبعة بالدخان. نسيتُ قبل حفلة البارحة أن شبابيك المنزل مغلقة. غريب بأني على «قيد» الحياة. اعتادت نور الانتظار لساعات قبل أقوم، ولكني هذه المرّة لن أقوم. رفعت الغطاء مُجددًا ووضعت رأسي تحت الوسادة لأتجنب ضجيج الباب. ولكنها لم تتوقف.
عندما حلّ المساء، وقفتُ وذهبت إلى الباب لأحضر علبة الحليب، ولكني وجدتها نائمة وهي تتأبط نفسها من البرد وتجلسُ منتظرة. أخذت علبة الحليب والبقالة المرمية بجانبها وأغلقت الباب. ولغبائي، نسيت أن الباب لا يغلق إلا إذا صفعته بقوة. حاولت إغلاقه بهدوءٍ ولكنّي لم أفلح. تركته مفتوحًا، وتوجهت إلى المطبخ لآكل. كنت عاريًا من كل شيء، إلا من بطانية تلفّني. أخرجت من كيس البقالة تفّاحة. قضمتها، وكانت أول تفاحة منذ أشهر. لشدة فرحتي بهذه التفاحة يدي الثانية تركت الغطاء فسقط على الأرض. ما أشبهني الآن بآدم. أكلت تفاحة فبانت سوءَتي. الخطيئة الأولى، ومن أحضر لي التفاحة؟ حواء. وبينما أن في سَورة خيالي حوّل التفاحة رأيت نور تدخل. لم أترك لها أي مجال لتوبخني. أمسكتها من يديها وسحبتها نحو السرير. كانت تقاوم في البداية، لكنها استسلمت نهايةً.
غُصتُ في نومٍ عميق بعدها، ولكني صحوتُ على صوت ضجيج مكنسةٍ كهربائية. فتحت عينيّ، فكان النور ثقيلًا. لقد فتحت اللعينة الستائر والنوافذ، وتقوم الآن بتنظيف المنزل. لماذا تحاول أن تكون أكثر مما أريد؟ توجهت إليها، وبدأت برمي الأشياء عليها. أيتها العاهرة ماذا تفعلين؟ تبكي. وتخبرني بأنها ليست عاهرة ولا تتقاضى مني أي مال. تخبرني بأنها تريدني أن أرى العالم. تخبرني بأنها تحبّني. أخبرتها مرارًا بأني لا أريد منها أي شيء، ولكنها لا تتوقف. لماذا لا تتوقفين؟ أكل هذا السوء لا يكفي لجعلك تكرهينني؟ لا يمكنني أن أغضب أكثر. حينما نزلت دموعها على الأرض أثارت استعطافي. لا يمكنني أن أكون سيئًا حتى!
أحضنها وهي تجهش بالبكاء، ثم أخذت تحكي عن مشاكلها وأنا أتظاهر بالاستماع. لم تتوقف عن البكاء، وأنا أريد العودة للنوم مُجددًا. حاولت أن أسكتها بأي شيء، ولكنها لم تتوقف. تخبرني بأنّها أعدت الفطور وأنها لن تسكت ولن تخرج إلا إن أكلت. توجهت للمطبخ، وكان هناك بعض اللحم المقليّ في المقلاة وبجانبهِ كوب شايٍ يخرج منه البخار. طفقت بالأكل كأنني كلب جوِّع عَمْدًا. كانت تنظر إليّ وابتسامة تبدو على محيّاها. من ألقى بها عليّ؟ لماذا تقف إلى جانبي؟ لماذا تريدني ان أخرج؟ لماذا تتعب نفسها معي؟ هي طيبة جدًا وقوية جدًا. أحسبها تستطيع اصطياد أفضل مني بمليون مرة. نعم أقول اصطياد، فالرجال هم من يقعون في الشراك وليس العكس. يظن الرجال بأنهم الصيادون وأن الإناث هنّ الضعيفات، ولكني لم أرَ قبلًا أقوى منها. هل حقًا تحبّني؟ أم أنها تميل إلى الرجال المحطّمين الذين لا أمل فيهم؟ هل هي صورة القديسة؟ ما زالت الابتسامة موجودة وتتسع شيئًا فشيئًا.
انتهيتُ من الأكل، لأجدها قد أعدت لي حمامًا ساخنًا. دخلت في الحوض، ووضعت قدمي في المياه الساخنة. هذه المرأة تعيدني طفلًا. تهديني الخطيئة الأولى، ثم تمنحني الميلاد. كانت تمسك بالإسفنجة وتنظّف آثار الدماء عن جسدي. تسألني عن الجرح في كتفي، فأتجاهلها. أجفف الماء. ثم أرتدي بعض الملابس التي وضعتها على الرف. تقول بأنها قد حضّرت سلة الطعام وأنها تنوي أن تصحبني إلى الخارج. هذه المرة الأولى التي أنظر إلى عينيها. لم أقوَ أن أقول لا. يبدو أن نوبة الجنون البارحة قد صنعت بي ما صنعت. يبدو بأني قد ولدت من جديد حقًا. أجبتها بأني سأخرج معها. هذه المرة، أرادت مني أن أخرج أمامها لا خلفها، كي لا أقفل الباب مثل المرة الماضية. لا أستطيع أن أقول بأنها خبيثة، فأنا لم أترك لها خيارًا.
لم أخرج منذ مدة طويلة. كنت أمشي شبه متكئ عليها، وكانت عيون العامّة كلها تنظر إلينا. أو بالأحرى كانت تنظر إليها. فتاة تمشي بصحبة شبح. الأطفال يهربون من الشارع خوفًا والكبار يتهامسون. حاولت أن أتجاهل أي شيء وأن أركز في خطواتي كي لا أقع، ولكن ليس من السهل أن تتجاهل كل العيون المُحدقة. سمعتُ رجلًا يخبر صديقه هامسًا: «ما الذي يدفع فتاة مثل هذه أن تخرج مع شخصٍ بحكم الميت؟» وآخر يتحدث ويقول بأني أدفع لها الكثير كي تقوم بما تقوم بهِ. تخبرني نور أن أتجاهلهم وأن أكمل مسيري. أكره أن أكون محط أنظار الجميع وأنا الذي حاولت أن أدخل نفسي في غياهب النسيان قصدًا. وصلنا إلى الحديقة قبالة البحر.
ما زلت متكئًا على كتف نور. تشربني نور كوب حليبٍ ساخن من الثيرمس الذي أحضرته. ولكني أخرجت من جيبتي زجاجة رمٍ صغيرة، وأفرغتها بالكوب. لم نكن قد جلسنا أكثر من خمس دقائقٍ، حتى وأقبل علينا رجال الشرطة. يصرخ أحدهم من بعيد عليّ بأن أترك الفتاة وشأنها وأن أرفع يداي في الهواء. حاولت، ولكني لم أستطع. بالكاد كنت أستطيع أرفع يدي على مستوى كتفيّ. تحاول نور أن تخبرهم بأننا مع بعضنا، ولكن كان هناك جمع كبير من الناس الذين تجمهروا، وكانت أصواتهم عالية. ظنوا بأني أحبسها كرهينة. لا يمكنني تحمل كل هؤلاء. حاولت الوقوف، وإذا بأحد عناصر الشرطة قد أطلق النار، فأصاب طرف ساقي اليمنى.
ككلبٍ مسعور ومحاصر، يطلق نداءه الأخير. أمسكت بذراعها ولويتها للخلف. أمسكت بها كساترٍ ووقفت. وصرت أجرها للخلف. تخبرني بأن لا أذعر، وبأن الأمر مجرد سوء تفاهمٍ. بدأ الناس برمي العلب الفارغة والحجارة عليّ، ولم أستطع أن أصدها عن نفسي. تركت نور وصرت أجري دون وعيٍ. وقبل أن أصل الطريق كانت الشرطة والناس قد وصلوني. ماذا تتوقعون من أحدبٍ مصاب؟ أن يطلق ساقيه للريح؟
كان شعور السلاح الكهربائي في جسدي منعشًا، شعرتُ لوهلة بأني مليء بالحياة، ثم سرعان ما وقعت على الأرض فاقدًا وعيي. لم أعِ أي شيء بعدما سقطت. أصوات بعض العصافير تبدو مسموعة من بعيد أنظر حولي، فأجد نفسي محاطًا بحيطانٍ بيضاء، ونافذة صغيرة تطل على شجرة سرو صفراء اللون. أحاول الوقوف، فأجدني مصفد بالسرير تحتي. أصرخ بأعلى صوتي ولا مُجيب. بقيت مُمدًا على السرير لعدة ساعات قبل أن أتى أي بشري تجاه غرفتي. جاء طبيب عملاق عريض المنكبين، وضع يده على صدري ودفعني نحو الحائط، وغرز إبرة بقوة في كتفي.
شعور الانتعاش يعود مُجددًا، أجد نفسي معلقًا بين الواقع والوهم. صارت الحيطان صفراء وشجرة السرو صارة بيضاء. العصافير على الشباك تتحدث فيما بينها، وتتناقش عن سبب بقائي حيًا إلى تلك اللحظة. كل شيء يصبح بعيدًا الآن. الشاطئ يقترب. صورة أخرى جديدة. أنا ونور على الشاطئ نتجاذب أطراف الحديث. أقول لها ما فعلت حينما شعرت بالبرد، فتضحك، وتخبرني بأنني مجنون. أحاول الاقتراب منها لأطبع على خدها قُبلة، ولكن الصورة الآن تبتعد. محاصرٌ بين البعيد والقريب. لا أجدني قريبًا من نفسي ولا بعيدًا عنها. أحاول الصحو، ولكنه يبدو خيارًا بعيدًا، أحاول الغرق في إحدى خيالاتي، إلّا أن تأثير الإبرة يجعلك مثل الأقمار الصناعية حول كوكب الأرض. شادًا ومشدودًا. أحاول أن آخذ لنفسي راحة، ولكن الأمر ليس في يدي. كأن هناك قوة أكبر وأعظم مني تحاول أن تبقيني بعيدًا عنّي.
أستسلم نهاية. مُجددًا، أفقد الإحساس بالوقت والمكان. لا شيء. أصحو بعد أسبوعٍ على صوتٍ يصرخ بجانبي. كانت نـور تجلسُ وتصرخ. تصرخ بي كأنني مُجرم. أسمعها توبخني: «لماذا فعلت ذلك؟ كان بإمكاننا أن نفسر الموضوع». يصبح لون نور أصفرًا. أسمع الحيطان تتحدث وتخبرني بأني أخطأت، فأرد على نُور بأني قد أخطأت ولكن خطئي، لم يكن أني قد أمسكتك كدرع بشري، وإنما حينما صدقتكِ وخرجتُ. تنهار نور. هشّة. كنت قد بنيتُ حول نفسي قصورًا من الرمل تحميني شر الآخرين. قصورًا من الرمل عملاقة. قصورًا حمتني كثيرًا ضربات كنت في غنى عنها. جاءت نـور تحمل على عاتقها مسؤولية الخلاص وتعيش دور المنقذ. أمسكت بمضرب طويل، واستمرت في هدم القصور، قصرًا قصرًا، حتى لم يتبقى لي أي وسيلة أحتمي بها من نفسي.
توقع نـور أوراق خروجي، تحملني على كتفها ونتوجه إلى سيارة أجرة تنتظرنا عند باب مستشفى الأمراض النفسية. أحاول التحديق في كل ما حولي الآن إلّها. أفتح الشباب وأغلقه كطفلٍ. أحدق في عيون المارة. لا أحد يأبه، كلهم يستمرون في حياتهم. في الطريق، تخبرني بأنها ستعيدني إلى بيتها لا إلى بيتي مُدّعية بأن هذا سيكون أفضل لي في المرحلة القادمة. أُصرّ على السائق أن يتجه إلى بيتي. تبكي نُور مُجددًا. من رمى بها عليّ؟ يصل السائق إلى البيت، ولكن؟ لا بيت هُنا! أنزل من السيارة عبثًا أبحث عن بيتي ولا أجده. وجدت يافطة معلقة، تقول بأنه تم هدم البيت بأمرٍ من البلدية. نظرتُ إلى نُور، هربت من نظراتي. صرخت بها. فأخبرتني بأن البلدية قد حصلت على أوراق تفيد بعدم سلامتي العقلية مما يخوّلها تجاوز الأمر الإخلاء وهدم البيت دون إذنٍ. لم أشعر يومًا بهذا الخواء. خواء قاتل وطاقة كبيرة. شعرتُ بالحقد يتقدُ فيّ. أمسكت برأس نُور وصدمته في السيارة أكثر من عشرين مرة. رأيت الدم يسيل من رأسها، ورأيت عينيها تتقلب. استمررت في ضرب رأسها حتى تأكدت أن لا شيء بقي. عندما رأى السائق ما فعلتُ، حاول الهرب، إلا أني سحبته من السيارة وضربت رأسه بزجاجة كانت على جانب الطريق. ركبتُ في السيارة وسرتُ بها مُسرعًا. توجهت إلى طريق البحر. صعدت الطريق المرتفع المؤدي إلى تلة «العشاق» المواجهة للبحر. ضغطت على دعسة البنزين أكثر وأكثر. حطمت السوُر على التلة، وحلّقت السيارة عاليًا قبل سقوطها المدوّي في البحر. كان كل شيء يسير بسرعة، إلا أني رأيت كل شيء يمر أمامي بالتصوير البطيء. بيتي يعود قائمًا. حياتي لا تعود كما هي. رأيتُ والدي في الأفق، كان يضحك ساخرًا، لم آبه. رأيت رئيس البلدية وتعتلي وجهه ابتسامة نصرٍ، كانت هذه الابتسامة هي أسوأ ما حصل معي اليوم. تصطدم السيارة بصفحة الماء. أشعر بأن عمودي الفقري قد دخل في رأسي. الآن فقط هجم الموج على بقايا قصور الرمل. الآن فقط اختفت كل الآثار. الآن فقط لم أعد موجودًا كما كنت أرغب. الآن فقط أشعر بالهزيمة من كل شيء، حتى من نفسي. الآن فقط… الآن فقط.