تأملات في المكان | من غزة إلى الدَّوحة (1)

كنتُ في غزة. قبل أعوامٍ خمسة كنت في غُزة. قضيتُ عامي الأخير فيها متصالحًا معها. توقفت عن البحث عن مخرجٍ أو عن مهربٍ. قررتُ أني سأبقى فيها إلى أن يأتيني خبر خروجٍ يقين. وفي تلك اللحظة، اتسع المكان، واتسعت معه قدرتي على إقامة علاقةٍ معهِ، مع زواياه، مع ناسهِ. أخذت أعمل في وظيفةٍ لأول مرة في حياتي. اشتركت في نوادٍ مُختلفة. عملتُ عبر الإنترنت. ترجمت روايةً. تمكنت من الخوض في علاقة عاطفيةٍ. لم أفكر في حدود المؤقت والدائم. فكَّرتُ بأني موجودٌ في تلك اللحظة، وأن عليّ أن أعيشها.

كل ما قبل ذلك العام غير واضحٍ. دخلتُ في دوامات كثيرة. خرجت من إطار الجماعةِ وجمعيتها، إلى الفردية وفرديتها. قرأت لسيوران، ولينتشة، وسورين كيركغارد. اطلعت على أعمال كونديرا. غرقتُ في فكر وأدب الحداثة. وتحولت تحولا كافكوياً. ابتعدت عن العائلة. تفككت. تشرذمتُ. أعلنت الحرب على القبيلة. ولكني اكتشفت في وقت غير متأخر، حسب تصوري، بأني كنت أعلنت حربًا على نفسي. خسرتُ فيها انتمائي. وخسرتُ فيها علاقتي مع ما كان جزءًا أساسيًا من تكويني. أن يخوض المرء حربًا على ماضيه، أو حربًا على مادةٍ كانت عاملاً تكوينيًا فيه، تعني أن يخوض المرء حربًا ضد نفسهِ. أن يرفع السيوف، ويكتب الخطابات ضد خصمٍ مُتخيل. يعتقد فيها أنه في جولة لتحرير العالم، ولكن العالم لا يراه. اغتربت عن نفسي. ابتعدتُ كثيرًا عمّا وعمّن حولي. بقيتُ في غرفةٍ في الطابق الثاني لبيتنا. ألحظ العالم وكأنه خالٍ من الألوان. كل شيء مؤقَّت. عقل مُنهك، وقلبٌ مُستنزف.

متابعة قراءة “تأملات في المكان | من غزة إلى الدَّوحة (1)”

أن تكون العودة نبوءة

قبل أشهرٍ، وقبل سفري إلى جُورجيا، كنت أنوي زيارة غزة، لرؤية أهلي وأصدقائي والمكان لأول مرة منذ سنوات ثلاثة، ولكن لم يسعفني الوقت ولا القدر في تلك الزيارة، إلا أن بعض الأصدقاء من الدّوحة توجهوا إلى القطاع، وأرسلت معهم بعض الأشياء لعائلتي، وتمكنوا من زيارتهم في عيد الأضحى.

كتبتُ في تلك الفترة نصاً (نهاية يوليو)، ولم أنشره وقتها، وأضعه بين أيديكم الآن.

متابعة قراءة “أن تكون العودة نبوءة”

«في المتاهة وجدتنا» إلى الصديق مُهند يونس

من اليمين: أنس سمحان، محمود أبو ندى، مُهند يونس (2014)

«إلى مَن أهداني المُغامرة»، هكذا أبدأ مجموعتي القصصية الأولى «صندوق رمل»، بإهداءِ إلى صديقٍ رآني، وأهداني مع التجربة المُغامرة. وقف معي، وأدخلني في دوامات كثيرة. رآني واقفاً. صلباً. لكنه أدرك مدى هشاشاتي. أمسك بي، ورماني في متاهات عقلي. أذاقني حلو التجربة. رماني، ومشى. ثم ضعنا معًا. نهتدي بنورٍ قلبينا.

كان يعرفني، وكنت أعرفه. نخرج معًا، نجلس لأوقات طويلة، ولا نتكلم. نجلس. يُشغل فيديو لفيلسوف أو منظرٍ فرنسي. يتحدث عن الموت. أضحك أنا. لم أكن عميقاً بما فيه الكفاية. لم أعيه كما ينبغي. وكم كنت مُصيبا.

أؤمن أن مبنى شخصيتك وفكرك إذا حقق دورته الكاملة، فأنت قد استنفدت طاقة الحياة فيك. وستموت. ميتتين. الأولى تجهيزٌ للثانية، وستذهب إليه سعيداً. مفاجئاً. حتى الموت نفسه سيتفاجأ منك.

أقف الآن على حافة أخرى من حواف العالم.

ابعتدنا كثيرا.. كثير جداً. ابتعدنا خمس سنوات يا صاحبيّ.

أتذكر الآن جلستنا الأولى في جائزة وزارة التربية والتعليم. ولقاءنا الثاني، مشينا أنا وأنت ومحمود يومها، من غزة، إلى خانيونس. انقطع النفس في الطريق، فأخذنا سيارةً، وعُدنا. عُدت معي يومها، ونمت في فراشي. رأيتك ابني وقتها، ومن هنا صارت علاقات التوأم بيننا متضاربة.

خمس سنوات يا صاحبي، على جلسة الميناء، تحدثني عن خطط الهجرة، عن فرنسا تارةً، وعن بلجيكا تارةً أخرى. تضحك حزيناً. تقول لي: «ستخرجون أنت ومحمود لأنكم ستتخرجون قبلي».

انتظرتك طويلاً يا صاحبي. انتظرتك في الصحو، وانتظرتك في الحلم.

وقفتُ على حافة العالم الأولى. عند قبرك. قبل أعوام ثلاثة. ناديتك. وسمعتني، وكان هذا إيذانٌ منك إلي بالخروج.

**

أقف الآن على حافة العالم الآخر،

أعرفك هناك،

أستنير بضحكك،

رميتني في المتاهة

لكنني فيها وجدتني.

ووجدتك فيَّ

والآن

صرت بعيدا.

بعيداً بالسنين.

الأمتار هينة،

خمسٌ يا صاحبي.

وكأنها البارحة.

أردت اللحاق بك قبلاً

لكنك مددت يدك إليّ،

تقول لي

لم تكتمل.

واصل المسير.

وستشعر بالحياة

تلفظك عند اكتمالك.

تخاف الحياة من الآلهة.

**

وداعا صديقي، ومرحبا.

جسدي قفص – نص

نصٌ من 18 يناير/كانون الثاني 2021.

بقدر سوء حظّي في اختياري لمن حولي، إلا أني أكاد أكون الأكثر حظًّا بأصدقائي الذين ربطتني معاهم تجارب مشابهة عشناها في سياقات مُختلفة، ولم نكن ندري أننا عشناها، إلا عندما اقتربنا من بعضنا دون أن ندري السبب. نعم، الكلمة هي محظوظ. لي أصدقاءٌ لم أرهم يومًا، ولكني أتجه إليهم عزاءً وفرحًا، حُزنًا وشوقًا، فِكرًا وقلبًا، نتحدّث في العام مرةً أو مرتين، ونتبادل الرسائل الطَويلة عبر البريد الإلكتروني. سمها صداقة حقيقية أو أدبية إن شئتَ، لن نختلف كثيرًا على المُسميّات.
كنتُ أتحدث وزياد التغلبي، صديقي السُوري الذي عرفته عبر الفيسبوك قبل سنوات، مُحادثة فيديو. بدأناها بالاطمئنان على بعضنا والسؤال عن آخر الأخبار والأفكار والحياة والعمل والعلاقات. تحدثنا عن الرسائل فيما بيننا، وعن انشغالنا الحاد عن بعضنا. في غمرةِ حوارنا، بدأت الحديث شخصيًا عن محاولة البقاء -جيدًا- وعن الاستمرار دون التحول إلى وحش قاتل. عن الحاجة إلى الكتابة. عن الحاجة إلى التقمص الوجداني empathy، وعن الشعور الفائض بالآخر أحيانًا أكثر من الذات. إلى أن وصلتُ إلى مرحلةٍ في الشرح، لم أكن قبل قادرًا على التلفظ بها أو الكتابة عنها. وهي المرحلة التي يخذلك فيها جسدكَ. مررتُ بهذا الخذلان مُسبقًا قبل أربعة أعوام، وعايشته مؤخرًا في شهري أكتوبر ونوفمبر. في تلك اللحظة التي تشعر فيها أنك تريد فِعل كل شيء، أن تخرج من عقلك حتّى من فرط الطاقة، ولكن وفي الوقتِ نفسهِ، تشعرُ أن جسدك يقاومك. جسدك الفاني، مُتعبٌ، أو يُتعبك. جسدك المُبتئس. يصحو صباحًا قبل أن يتشبع نومًا، وينام متأخرًا رغم إنهاكه. دماغك المُهترئة عملًا ولفًا، إلا أنها لا تتوقف عن التفكير البائس والباعث على الابتئاس. تجد طاقتك تموت في محاولة إنعاش الجسد. يخطر على بالك كتابة نصٍ، والعتبة في بالك جاهزة، إلا أن الرأس والجسد لا يساعدان. تريد أن تزور أصدقاءك وأن تخرج من بيتك، ولكن الجسد يخذلك في كرهه للتحرك. تُريد العوم في الماء، ولكن جسدك لا يتوقف عن التشنج. ضغطٌ من الأعلى، وضغطٌ من الأسفل، كأنك قد نزلت آلاف الفراسخ في أعماق المحيط. جسدك المُهترئ يكاد يتفجر، وطاقتك تذوي. يخذلك الجسد، يضمر الجسد، يتعب العقل، تموت النفسَ فيكَ، ولكنك تقاوم. وتقاوم. إلى أن تستعيد جسدك ثانيةً، ولكنه سُرعانَ ما يخذلك مُجددًا. تريد أن تكون حُرًّا منه. أقول لزياد كل هذا، فيذكّرني بأغنية من مُسلسل هاوس، «جسدي قفص»ٌ، يحبسني، يُقيدني، يلزمني بالأكل والشرب والنومِ، وأنا الذي أشعر أن حياتي قصيرة للغاية، وأنّ لدي الكثير من الأمور التي لم أجربها بعد. لم أكتب كل القصص بداخلي. ثمة نصٌ عالق في رأسي منذ أكثر من تسعِ سنوات. أتذكر عتبته. أعرف فكرته. يقفز إليّ في كُل لحظةٍ، ولكني لا أقوى على كتابتهِ. أكتب بحثًا، وأكتب عملًا، ولكني حينما آتي لأكتب نصًّا لي، ترتفع يافطة في داخلي، «انتهى الدوام». صار الجسد مؤسسة بيروقراطية مُترهلة في عصر الاستهلاك، ومحكوم بالحياة فيها. يبدأ عمله صباحًا، وينتهي عصرًا، ولا ساعات عملٍ غيرها. إذا صحوت متأخرًا، فقدت ساعات العمل، وعليك المحاولة في يوم آخر. فعلًا، جسدي قفصٌ، يأسرني. قفصٌ، لستُ أكرهه، ولكني أكره خذلانه المُتواصل لي. جسدٌ يملكني، ولستُ أملكه، وهنا مكمن الكابوس. جزءٌ منكَ، لا تقوى على التحكم فيهِ. يخذلك. يُفرحكَ. يتعبك. وعندما يموت، تموت، ولا تعرف كيف. أهو الوعاء؟ أهو الوجود؟ أهو التجسد؟ ما هو؟ في النهاية أتذكر نصًّا كتبته في السنوات الغابرة، لسنا إلا كومة ذكريات تمشي على الأرض.

في هذه اللقطة فقط، يعني أن تتصالح مع جنونك.
من أجمل المشاهد في كامل مسلسل د. هاوس.
House S7E16

اعتبرها رسالة أخرى يا زياد، وأنا الذي لأكتب هذا النص، لعنتُ نفسي الآن بليل طويلٍ دون نوم. لأني وكما قلتُ، يخذلني جسدي، إذ وكلما كتبتُ نصًّا، أصابتني حالة من فرط نشاطٍ لا يمكنني السيطرة عليه، ولا يمكنني حتى دفعه للنوم، فيبقيني مُنهكًا، مُتعبًا، نعسًا، غير قادرٍ على النومِ، وفي الآن نفسهِ، دون أية فائدة.
صديقي زياد، جسدي قفصٌ، ولكني لستُ عصفورًا.. حين يفتح الباب، لا أطير، وإنما أموت. وحسب هذه الصُورة، وكثير من الصُور المبتذلة، سيكون الخروج من القفص، حرية، ولكني لستُ متأكدًا، إن كان راحة.