هذه المقالة مُترجمة بتصرّف عن اللغة الإنجليزية لكاتبها آدم غرانت والذي يتحدث أحيانًا بصوتهِ، شارحًا الحالة من وجهة نظر شخصية. (في بعض الحالات ستكون ثمة مداخلات منّي ولكنها ستكون بين أقواس دائمًا).
آدم غرانت، مؤلف وعالم نفس أميركي، ويعمل حاليًا أستاذًا في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا مُتخصصًا في علم النفس التنظيمي. حصل غرانت على منصبه الأكاديمي في عمر الثامنة والعشرين، وكان وقتها أصغر أستاذ في الجامعة.
فتور الجائحة
لم أكن قادرًا في البداية على ملاحظة الأعراض التي كنا نعاني منها جميعًا. ذكر لي بعض الأصدقاء أن لديهم مشاكلًا في التركيز. وأشار بعض الزملاء أنه وعلى الرغم من أخبار إنتاج اللقاح، إلا أن أيًا منهم لم يكن متحمسًا لعام 2021. سمعت أخبارًا أن فتاة جلست لتعيد مشاهدة فيلم «ثورة وطنية»، والذي تحفظه الفتاة عن ظهر قلب. أما أنا، فبدلًا من الاستيقاظ من النوم الساعة السادسة صباحًا، استمريّت في الاستلقاء في سريري حتى الساعة السابعة، وأنا ألعب على هاتفي المحمول لعبة «Words With Friends».

لم يكن الأمر إنهاكًا، فلا زال لدينا طاقة للاستمرار. ولم يكن الأمر اكتئابًا، فنحن لم نشعر باليأس. لقد شعرنا -وما زلنا نشعر- بالكدرِ والابتئاس، واسم هذه الحالة هو: الفُتور.
الفتور المقصود هنا، هو إحساس بالركود والفراغ، تشعر فيها كما لو أنك تعيش أيامك مُشتتًا، وتنظر فيها إلى حياتك لترى الضباب يجتاحها ويلفها، فلا تعرف ماذا أنت فاعل ولا ماذا ستفعل. لقد كان هذا هو الشعور السائد في عام 2021.
وفي الوقت الذي يحاول فيه العلماء والأطباء معالجة الأعراض الجسدية طويلة الأمد لكوڨيد-19، يعاني الكثير من الناس من الأعراض العاطفية طويلة الأمد للجائحة. عندما بدأ تفشي الفايروس، كثير منا لم يكن مستعدًا لفيضان الخوفِ والتوتّر الذي أحاق بنا.
وفي الأيام الأولى للجائحة، عندما كانت حالة انعدام اليقين تعترينا جميعًا، من المرجح أن نظام الإنذار في أدمغتنا – أو اللوزة الدماغية/العصبية – كان في حالة استعداد قصوى لاستجابة الكر أو الفر. ولكن ومع تعلمنا أن الأقنعة ساعدت في حمايتنا، وأن تعقيم الأكل والطلبات التوصيل لم يساعد، ربما طورنا بعض الإجراءات الروتينية لتخفيف شعورنا بالفزع والرهبة. لكن الجائحة استمرت، ووجدت الغمّة طريقها إلينا وجعلتنا نعيش في حالة مزمنة من الفُتور.

نُفكِر، في علم النفس، أن الصحة النفسية للفرد تنبسط بين محوريّ الاكتئاب والازدهار، بحيث تكون حالة الازدهار هي أقصى الحالات الإيجابية للصحة النفسية، ويكون لدى الفرد وقتها إحساس قوي بمعنى وجودهِ، وطريقة تعامله مع نفسه ومع الآخرين. أما الاكتئاب فهو العكس تمامًا، إذ يشعر الفرد بالاعتلال واليأس والتعب وبانعدام القيمة.
يمكننا القول إن الفتور هو الابن الأوسط المتروك بلا رعاية في عالم الصحة النفسية. فهو يقع في منطقة بين الاكتئاب والازدهار، ويمكن تعريفه على أنه غياب العافية. لا تظهر على الشخص أعراض الأمراض العقلية، ولكن لا تكون معافىً عقليًا أيضًا. لا يمكنك العمل بطاقتك الطبيعية. يخنق الفتور مُحفزاتك ويدمر قدرتك على التركيز ويضاعف إمكانية تقليصك لعملك أو لما تقوم به بشكل عامٍ. ويكون الفتور في هذه الحالة، أكثر شيوعًا وأكثر ملاءمة للأعراض من الاكتئاب الشديد، وفي بعض الحالات، قد يكون عامل خطرٍ كبير يؤدي لاحقًا للإصابة بأحد الأمراض العقلية.
يمكننا القول إن الفتور هو الابن الأوسط المتروك بلا رعاية في عالم الصحة النفسية
صيغ المصطلح (لأن الكلمة ليست جديدة، سواء في العربية او الإنجليزية) لأول مرة ليلائم معناه الحالي على يد عالم الاجتماع كوري كيز، عندما لاحظ أن كثيرًا من الناس، لم يكونوا مصابين بالاكتئاب، ولكنهم لم يكونوا نشطين وفاعلين في الوقت نفسهِ. يشير بحثه إلى أن الأشخاص الأكثر عرضة بالإصابة بالاكتئاب واضطرابات القلق في العقد القادم ليسوا مَن يعانون من هذه الأعراض اليوم. ما نراه اليوم هو أشخاص يعانون من الفتور. وتظهر الأدلة الجديدة من العاملين في مجال الرعاية الصحية (في وقت الجائحة) في إيطاليا أن أولئك الذي كانوا يعانون من الفتور في ربيع 2020 صاروا أكثر عرضة بثلاث مرات للإصابة باضطراب ما بعد الرضح (أو اضطراب ما بعد الصدمة) من أقرانهم الذين لم يعانوا من الفتور وقتها.
علامة الخطر لهذه الحالة أن الفرد وحين معاناتهِ من الفتور، فهو لا يلاحظ خدره وتلاشي بهجتهِ أو انخفاض في طاقتهِ وقدرته على المواصلة. يجد المرء نفسه ينزلق ببطء باتجاه العُزلة، وتزيد لا مبالاتهِ للامبالاة نفسها. فأنت حين لا ترى معاناتك واضحة، لن تلجأ لطلب المساعدة أو حتى أنك لن تسعى لمساعدة نفسك. ربما أنت لا تشعر الآن بالفتور، ولكنك تعرف أفرادًا يمرون بهِ. فهمك لهذه الحالة، قد يعينك على مساعدتهم.

تسمية ما تشعر به
يقول علماء النفس إن واحدة من أفضل استراتيجيات التحكم في المشاعر يكون عبر تسميتها. عندما كانت غمة الجائحة في أوجها ربيع العام الماضي، كانت واحدة من أشهر منشورات Harvard Business Review انتشارًا في تاريخ الموقع، مقالة تصف قلقنا الجماعي على أنه «حَسرة/Grief». ففي الوقت الذي كنا نخسر فيه أحبتنا، كنا نشعر بالحداد والحسرة لفقدنا لما هو طبيعي. «حسرة». أعطتنا هذه المقالة مفردة مألوفة لفهم ما يعنيهِ أن تعيش تجربة غير مألوفة. وعلى الرغم من أننا لم نشهد أي جائحةٍ قبلًا، فقد جرب جميعنا تقريبًا فقدان قريب أو حبيب. ساعدتنا هذه المقالة واختيار المفردة على استخلاص دروس مُهمة من تجاربنا الماضية، وأعانتنا على تطوير مرونة واكتساب نوعٍ من الثقة في قدرتنا على مواجهة المحن الحاضرة.
ما زال أمامنا الكثير لنتعلمه عن مُسببات الفتور، وكيفية علاجهِ، ولكن تسميته كانت الخطوة الأولى والأهم. قد تساعدنا التسمية على إزالة الضباب الذي يلتف وينهش قلوبنا ورؤيتنا، ويعطينا نافذة نبصر فيها ما كان ضبابيًا من تجربتنا. أو على الأقل قد يساعدنا لنبصر أننا لما نكن نعاني من الفتور وحدنا، بل هي حالة تشاركها عددٌ كبير من البشر في جميع أنحاء الكوكب.
قد تُساعدنا أيضًا التسمية على أن نجد إجابة أكثر قبولًا لسؤال: كيفك؟ أو كيف حالك؟
فبدلًا من أن نقول «بخير!» أو «الحمدالله»، تخيل ان يكون بإمكانك أن تقول «بصراحة، أشعر بالفتور». قد تكون هذه الإجابة تبديلًا للإيجابية السامّة التي نحاول أن نحيط أنفسنا بها، حيث أن ثمة ضغط اجتماعي علينا لنكون أشخاصًا متفائلين طوال الوقت.
فبدلًا من أن نقول «بخير!» أو «الحمدالله»، تخيل أن يكون بإمكانك أن تقول «بصراحة، أشعر بالفتور». قد تكون هذه الإجابة تبديلًا للإيجابية السامّة التي نحاول أن نحيط أنفسنا بها، حيث أن ثمة ضغط اجتماعي علينا لنكون أشخاصًا متفائلين طوال الوقت.
عنما تضيف «الفتور» إلى قاموسك، فستبدأ بملاحظتهِ من حولك. ستراه حين تشعر بالحزن وقت مشيتك المسائية. ستسمعه في صوت أطفالك حين يخبرونك عند دروسهم التي يخوضونها عبر الإنترنت. ستشعر بها عندما يرد عليك صديق لك بإيموجي Meh 😐، حين تسأله عن حاله.
وذكرت الصحفية دافني كي ليي في الصيف الماضي في تغريدة لها أن ثمة تعبير صيني معناه «التأجيل الانتقامي لوقت النوم»، وقالت إنه يعني أن تبقى مستيقظًا لوقتٍ متأخر في الليل لاستعادة جزءٍ من الحُرية التي سُلبت منا في النهار. دفعتني هذه التغريدة للتساؤل ما إذا كان هذا الفعل يُنبئ عن تحدٍ صامت لحالة الفتور أكثر منه فعلًا انتقاميًا ضد فقدان السيطرة على حياتنا. نبقى مستيقظين لنبحث عن النعيم بعد يومٍ كئيب، أو لنبحث عن اتصالٍ بعد أسبوع من العُزلة أو لنبحث عن هدفٍ في هذه الجائحة التي تأبى الموت أو الانتهاء.

علاج الفتور
بعد التسمية، ما الذي في مقدرونا أن نفعله؟ ثمة مفهوم يدعى «الانصباب» والذي قد يحتوي على علاجٍ للفتور. يمكننا تعريف «الانصباب» هنا على أنه حالة مُراوِغة من الانهماكَ في تحدٍ ذي معنى أو في رابطة مؤقّتة، بحيث يذوب إحساسك بالزمان والمكان وبذاتك. في بداية الجائحة، لم يكن أفضل مؤشر للصحة النفسية هو التفاؤل أو الوعي بالذات، بل كان الانصباب فعلًا، فالأشخاص الذين انغمسوا في مشاريعهم وصبّوا تركيهم فيها، تمكنوا من تجنب الفتور وحافظوا على سعادتهم وحالتهم التي كانت لديهم قبل الجائحة. (وهو ما فعلته ما حصل معي في بداية الجائحة، إذ انغمستُ في عملي على الترجمة والكتابة بشكل غير منقطع).
بالنسبة ليِ، فقد كانت لعبة «Words With Friends» صباحًا نوعًا من الانصباب، وأيضًا كانت المشاهدة المتواصلة لنتفلكس تساعد أحيانًا، لأنها تنقلك إلى قصة بحيث تشعر بتعلقٍ إلى الشخصيات، وتشغلك بمشاكلهم عن مشاكلك.
وفي حين أن العثور على تحديات جديدة وتجارب ممتعة وعمل هادف كلها تعد علاجات ممكنة للفتور، إلا أنّه من الصعب العثور على «الانصباب» عندما لا يمكنك التركيز (وقد فقدتُ قدرتي على الانصباب مع بداية الفصل الثالث للماجستير، وبدأ الفتور بالانسلال إلى حياتي). كانت هذه المشكلة موجودة قبل وقت طويل من الجائحة، خصوصًا عندما يتفقد الناس بريدهم الإلكتروني 74 مرة في اليوم بشكل عادي وعندما كانوا يتبادلون المهام كل عشر دقائق. عانى الكثير منا في العام الماضي أيضًا من إزعاجات الأطفال، لأن العمل صار من البيت، ومن إزعاجات الزملاء في المناطق الزمنية المختلفة، ومن إزعاجات المدراء الذين كانوا يعملون على مدار الساعة.
يُعد تشتت الانتباه العدو اللدود للانغماس والتميز. ففي مجموعة من مئة شخص، يكون بإمكان شخصين أو ثلاثة فقط أن يستمروا في العمل وأن يحفظوا المعلومات المطلوبة منهم في الوقت نفسهِ دون أن يتضرر أداءهم في إحدى المهمتين أو كلتيهما. قد تصلح الحواسيب للتعامل مع تعدد المهام المتوازية، ولكن البشر يبدعون أكثر حين تكون مهامهم مُتسلسلة.

خُذ لنفسك وقتًا دون مُشتتات
هذا يعني أن تكون قادرًا على إيقاف الآخرين عند حدّهم معك. أقامت قبل عدة سنوات شركة برمجيات في قائمة فورتشن 500 اختبارًا في الهند لتطبيق سياسة بسيطة: لا أحد يتواصل مع الموظفين في أيام الثلاثاء والخميس والجمعة قبل الظهر. وعندما تمكن المهندسون البرمجيون من إدارة وقتهم، زادت الإنتاجية 47% أعلى من المتوسط، وعندما فرضت السياسة الجديدة رسميًا، ارتفعت الزيادة في الإنتاجية إلى 65% أعلى من المتوسط. لم تكن هذه الزيادة في الإنتاج جيدة للموظف في عملهِ فقط، فكلنا نعرف أن الإحساس بالإنجاز والتقدّم يزيد من سعادة الناس وتحفيزهم في حياتهم اليومية أيضًا.
لا أظن ان ثمة أمر خاص في أيام الثلاثاء والخميس والجمعة قبل الظهر. ما نتعلمه من هذه الفكرة البسيطة أن علينا حماية هذه الأوقات التي لا ينقطع فيها تركيزنا وكأنها كنزنا الخاص. فهذا الأمر يزيل المشتتات المُتواصلة، ويمنحنا حُرية التركيز، وعلينا أن نجد العزاء والفرح في التجارب التي تجذب انتباهنا بالكامل.
ركّز على الأهداف الصغيرة
أفقدتنا الجائحة الكثير، ولتجاوز الفتور، حاول أن تبدأ بانتصارات صغيرة عليها، مثل الفوز في لعبة على الهاتف المحمول بكلمة تتشكل من سبعة أحرف. يمكن تحقيق حالة ومفهوم «الانصباب» عبر التحكم بصعوبات ما نمر بهِ: ضع نفسك في تحدٍ يزيد من مهاراتك وتصميمك. وهذا يعني ان تكون قادرًا على التنازل عن جزءٍ من يومك في أمر يُهمّك، وأن يكون هذا الأمر يستحق وقتك وأن يكون ممتعًا، مثل أن تخوض محادثة مع شخص ممتع. في كثير من الأحيان، يكون كل ما نريده هو خطوة صغيرة فقط لنعيد اكتشاف طاقتنا وحماستنا التي فقدانها خلال الأشهر الماضية.
الفتور ليس حالة تمامًا تسكن في رؤوسنا مثل الاكتئاب، وإنما ظروفنا. ولا يمكننا أن نشفي ثقافة مريضة بترياق شخصي. ما زلنا نعيش في عالمٍ يدعم تحديات الصحة الجسدية، وفي الحين ذاته، يعيب تحديات الصحة النفسية. في هذا الوقت الذي نتجه فيه إلى واقع وحياة ما بعد الجائحة، علينا أن نأخذ لنفسنا مُهلة لنعيد التفكير في فهمنا للصحة النفسية والعافية البدنية. «لستُ مكتئبًا» لا تعني أنك لا تعاني. «لستُ منهكًا»، لا تعني أنك مشحون بالطاقة. باعترافنا أن الكثير من الناس يعانون من الفتور، فنحن نعطي صوتًا لليأس الصامت، ونعين الناس على إيجاد الطريق للخروج من الفراغ.
مُلاحظة من المُترجم
عندما اخترت ترجمة هذه المقالة، فهذا لأنها كانت بالنسبة لي واصفة وكاشفة لكل ما مررت به منذ العام الماضي حتى هذه اللحظة. بعد بداية تفشي فايروس كورونا عالميًا، ألزمت نفسي بجدول يومي للقراءة والعمل والترجمة وممارسة التمارين الرياضية والمشي ليلًا، وحافظت عليهِ لحوالي ستة أشهر، ولكن مع بداية الفصل الثالث من الماجستير في شهر سبتمبر 2020، فقد تركيزي، ودخلت في حالة فتورٍ لم أكن قادرًا على تبريها، وراودني إحساس بالخدرِ طوال الفترة الماضية، إحساس منعني من الفرح بحصولي على وظيفة بدوام كامل، ومنعني من الابتهاج بانتهائي من رسالة الماجستير ومناقشتها بالمعنى الكامل للابتهاج.
لقد اخترت ترجمة هذه المقالة للعودة الآن إلى حالة التركيز تلك، فأنا أعمل في وظيفة أحبها، ويمكنني المحافظة على موازنتها مع حياتي الشخصية، وإيجاد الوقت لاحقًا للقراءة والكتابة والترجمة، وسأعمل خلال الفترة القادمة على أخذ كورسات جديدة عبر الإنترنت وترجمة مقالات أسبوعيًا ونشرها على المدونة، وسأعود للكتابة في الصّحف كما اعتدت أن أفعل العام الماضي.
وكما قال الكاتب آدم غرانت، تكون البداية في الخطوات الصغيرة، وها أنا أخطو خطوتي الصغيرة لاستعادة حالة الانصباب التي أحتاجها لأخرج من حالة الفتور المصاحب للجائحة. علينا أن نحافظ على أنفسنا وعلى صحتنا النفسية كما نهتم بصحتنا الجسدية.

رأيان حول “«فتور» الجائحة: حالة الإعياء من الإغلاق”