اختراع إجازة نهاية الأسبوع – سلسلة طُغيان الوقت


خُضنا جميعًا أعوامًا وأوقات عصيبة، إلّا أن عاميّ الجائحة المنقضيين كانا تجربة فريدة ومؤثرة في حياتنا جميعًا، وفي طريقتنا لاستيعاب الوقت ولمرور الأيام والأسابيع والسنوات. أصابنا في هذا الأعوام ما أصابنا من حيرة وضبابية، إن لم تصبنا كورونا نفسها، وهو ما دعاني إلى التفكير في مفهوم الوقت وكيفية تعامل الحضارات معه، أرشدتني القراءات في طريقي إلى البحث في اختراع الوقت وطغيانه وكيف صارت المفاهيم المُختلفة دارجة ومُتكاملة في حياتنا. هذه هي المقالة الثالثة ضمن السلسلة، حيث كانت المقالة الاولى بعنوان طُغيان الوقت، والثانية بعنوان اختراع الأسبوع، وأردت أن تكون كِمالة السلسلة بفكرة اختراع إجازة نهاية الأسبوع، والتي استوعبناها تمامًا كما استوعبنا اختراع الوقت الاستعماري أولًا، ثم استعيابتنا لتقسيم حياتنا وتقاويمنا إلى سبعة أيامٍ دورية تُنظم عجلة الإنتاج.

يتناول الكاتب في هذه المقالة أثر الثورة الصناعية والمجتمع الصناعي في اختراع إجازة نهاية الأسبوع بما يخدم أصحاب رأس المال بالمقام الأول، ويؤكّد على وجود تواطئ بين النظام المجتمعي والتعليمي والديني مع النظام الرأسمالي في التحكم في تعبئة وتجهيز الناس ليكونوا مُسننات في آلة الإنتاج الكبيرة، كما يأتي الكاتب، سريعًا، على فكرة كارل ماركس عن الاغتراب/الاستلاب، وأثرها على الطبقة العاملة. أتمنى لكم قراءة مُمتعة ومُثرية.


اختراع إجازة نهاية الأسبوع

لم يكن سعي المسيحيين المحموم لاعتبار يوم الأحد يومًا للراحة مدفوعًا فقط بيوم بعث المسيح وإنما بمحاولة تمييز أنفسهم عن اليهود أيضًا الذين كانوا يرتاحون يوم السبت، ومع حلول القرن الرابع تُرجم هذا السعي بتثبيت يوم الأحد بوصفهِ يوم راحة في الكنيسة المسيحية وفي التشريعات المدنية.

صار المتطرفون لإجازة يوم الأحد الآن وبعد ألفية ونصف يبدون معادين للسامية، خصوصًا مع تأثرهم الشديد بعبادة الشمس الوثنية والتي كانت منتشرة بين المسيحيين الأوائل، وهو ما دعا إلى تثبيت يوم السبت بوصفهِ راحة للمسيحين أيضًا. لم يكن يجدر بالظروف السياسية الزمانية التأثير على اختيار يومٍ للراحة، ولكنّها أثرت.

ويوجد سبب آخر لإعادة القدسية إلى يوم السبت في القرن التاسع عشر، وهو غياب شرعية يوم الاثنين، ففي إنجلترا ما بعد الثورة الصناعية، وحسب تعبير الشاعر چورچ دافيز، «كان الناس من كل الطبقات يواصلون فرحهم واحتفالهم حتى اليوم التالي»، ولم يقتصر الأمر على العُمَّال فحسب، بل إن الناس من كل الطبقات والمشارب احتفلوا بيوم «الاثنين القدّيس» كإجازة من العمل، حتى أصحاب الأعمال الصغيرة شاركوا في هذه الإجازة. وعلى الرغم من أن أغلب العمال قضوا يوم الاثنين في الحانات وفي الرهان على صراعات الديِّكة والكلاب، فإنه كان أيضًا يوم راحة ويوم للزيارات الاجتماعية، بحيث تحتشد الحدائق العامة «حرفيًا بموظفي الطبقة العاملة المسرورين والذين يلبسون أجمل الثياب وأحلاها».

وقد صار يوم الاثنين يوم راحة متأثرًا بإيقاع العمل في الفترة ما قبل الثورة الصناعية، بحيث كان العُمَّال يجتمعون لإتمام مجموعة من المهام والعمل المُجهد لعددٍ من الأيام ثم حضور مسرحية في منتصف الأسبوع. صوَّر الكاتب إي بي ثومپسون الأمر كالآتي: «حيثما كان الرجال يتحكمون بحياتهم العملية، كان نمط العمل يشبه نوبات متتابعة من العمل الشاق والكسل». كانت الفكرة تبدو غريبة: العمل في وقت مُحدد وأيام مخصصة بانتظام والترفيه في وقت آخر. لاحظت لجنة عينها مجلس العموم في عام 1806 لتقييم حالة صناعة الصوف في إنگلترا «نفورًا شديدًا من الرجال لأي ساعات عمل عادية أو لأي عادات مُنتظمة». إذ كان عملهم يترتب حسب المهام المطلوبة منهم، وإذا انتهوا منها، توجهوا إلى الترفيه.

اشتاط أسياد الصناعات غضبًا كما هو متوقع لما يواجهونه من «صعوبة كبيرة في حمل رجالهم على العمل يوم الاثنين»، وإزاء عدم فعالية الحوافز المالية لتغيير سلوكهم، واشتكى أحد التقارير بأن العُمال «لن يعملوا أكثر مما تقتضيه الضرورة». وازدادت حدّة هذه المشكلة مع ظهور الآلة البخارية، حيث اضطر أصحاب رأس المال إلى الاستثمار في وسائل الإنتاج واحتاجوا إلى أكبر قدرٍ من الأيدي البشرية على آلاتهم لأطول عدد ممكن من ساعات اليوم، وهي حاجة خرَّبها عليهم يوم «الاثنين القدّيس» الملعون.

أدى تطوران إلى تقويض الإجازة في يوم «الاثنين القدّيس» في منتصف القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى عدد من الأسباب أهمها، الخوف من زحف احتفالات يوم الاثنين ليوم الثلاثاء. كان التشدد الأخلاقي للعصر الفيكتوري هو السبب الأول، ولم يكن من قبيل المصادفة أن ظهور حركات الاعتدال الأولى في أوائل القرن التاسع عشر كان موجَّهًا بشكل خاص نحو معالجة العادات المتدهورة «زعمًا» للطبقة العاملة. تطلب الإيقاع الذي بدأته الآلة البخارية تآكل قداسة يوم الاثنين، ووصلت حركة الاعتدال إلى إشارة لإعادة النظر في احتفالات يوم الاثنين على أنها همجية. (من المسلم به أن التقدم في تقنيات التقطير والنمو الناتج عن استهلاك الخمور المقطرة في القرن الثامن عشر -وهو أول مقياس ولا يزال أكثر المقاييس دقة لمدى استيعاب الموظفين لأهمية عملهم أو اغترابهم- يعني وصول الناس إلى معدّلات سُكْرٍ مُرتفعة يوم الإثنين).

أما السبب الثاني فكانت حركة الاحتفال بيوم السبت على أنه نصف إجازة، وتباهى أصحاب العمل بأنهم كانوا يَدَعُون موظفيهم يتركون العمل باكرًا في أيام السبت من أجل «حثّ الطبقة العاملة على أن تكون أكثر استقرارًا… [و] لمنحهم وسائل/مساحات استجمامٍ قانونية». نشرت الصحافة هذا الخبر وعن امتنان العُمَّال لإحسان أصحاب العمل، وسُرعان ما بدأ التخطيط لأنشطة مُخصصة «وللترفيه المعقول» مثل الحفلات الموسيقية وألعاب كرة القدم في الإجازات الجديدة، وصارت إجازة يوم السبت إلزامية للنساء بموجب قانون المصنع لعام 1876، ثم بعدها صدر قانون العمل لتسع ساعات في النهار بفعل حركات العمال بين 1871-1872. ونظرًا لقانونية نصف الإجازة في يوم السبت، صار يوم «الاثنين القدّيس» مُخصَّصًا للجنون والسُّكر. وحسب المؤرخ دوگلاس ريد، «اُستخدم يوم السبت (نصف الإجازة) بوصفهِ وسيلة لزيادة ساعات العمل يوم الاثنين لعشر أو إحدى عشر ساعة».

الانتقال إلى ساعات العمل بدلًا من المَهام

لكن القضاء على يوم «الاثنين القدّيس» كان أكثر من مجرد تمديد لساعات أسبوع العمل من سبعٍ إلى ثماني ساعات: فكما ذكرنا سابقًا كان الهدف من دفع العمال للعمل في يوم الاثنين جزءًا من تحول دينامية العمل، العمل ساعات مُحددة بدلًا من وجود مهام يجب إنجازها. وجادل ثومپسون في مقالته الكلاسيكية  «الوقت وانضباط العمل والرأسمالية الصناعية» ، بأن هذا التحول أدَّى إلى زيادة في غياب فهم العُمال لأعمالهم/تغرّبهم عنها/استلابهم المهني، فعندما يكون لدى المرء مهمة لإنجازها، مهما كانت عادية ، فإن العمل يحمل وضوحًا معينًا: له بداية ونهاية (إكمال المهمة) وتكون ثمار عمل الفرد قابلة للتسويق، وعلى حد تعبير ثومپسون: «يبدو أن الفلاح أو العامل يهتم بما يُعتبر ضرورة ملحوظة».

أما في نظام العمل لساعات مُحددة: يبدأ المرء يومه العملي وينتهي في منتصف المهام، والتي تبدو بعيدة عن إتمامهِ لأي منتج نهائي، مجرد أجزاء من عملية أكبر غير شفافة للمشاركين فيها، وهكذا تزامن القضاء على يوم الاثنين ليس فقط مع الامتداد الكمي للعمل ولكن أيضًا مع تحوله النوعي نحو اللامعنى – ما يسميه ماركس الاغتراب[1] عن «منتجات العمل» و «النشاط الإنتاجي».

كُلفت مدارس القرن التاسع عشر في ذلك الوقت، تحت شعار «الآلة البخارية والعالم الأخلاقي الجديد»، كما وصفها الأوينيون[2]، بإعادة صياغة هذا التكيف مع الاغتراب باعتباره أخلاقيات «اقتصاد الوقت». يدرك جميع الطلاب في المجتمع الرأسمالي، إلى درجة ما، أن التعليم يدور حول تعلم تحمّل الأنشطة غير المجدية واستيعاب المعرفة منزوعة السياق وفقًا لجدول زمني صارم، كشكل من أشكال التكييف لحياة العمل الباعث على الاغتراب. صارت المدارس في القرن التاسع عشر فقط (وليس قبله) مراكز تعبئة للأيديولوجية الرأسمالية.

بالإضافةِ إلى حاجتهِ إلى تدخل مبكر، خلق إلغاء «الاثنين القدّيس» حاجة إلى تبديل جذري لمفهوم «وقت الفراغ». كان المصلح الاجتماعي ابن الطبقة الوسطى چون فوستر غاضبًا على نشاطات الترفيه المُنتشرة في عصره: «كيف يُتاح لأولئك الذين لا يملكون أي تنمية ذهنية أن يمضوا هذا الوقت الثمين؟ فها نحن نراهم يدّمرون تلك الأوقات. يجلسون لساعة أو لساعات معًا.. على مقعدٍ عام أو يستلقون على ضفة نهرٍ أو على تلّة، يجلسون ويمضون الوقت الشاغر لديهم بفتور.. أو يتحلقون في جماعات على جانب الطريق، استعدادًا للعثور على أي أزقّة  مناسبة لمزاحهم الثقيل أو للتصرف بوقاحة أو لإلقاء بعض الكلمات الساخرة على المارَّة».

ولتجنب كلمات الطبقة العاملة الساخرة على جانبي الطريق، انطلقت أعمال «الترفيه المعقولة» لتعطي لأبناء الطبقة العاملة هدفًا أو تنشئة لمن يفتقرون منهم إلى التربية. كان من الضروري تطوير أشكال ترفيهية جديدة مُحددة وواضحة وتخلق مسارًا ثقافيًا من شأنه أن يؤدي لاحقًا إلى أغاني البوب القصيرة (3 دقائق) والحلقات التلفزيونية المنتظمة (كل حلقة 20 دقيقة)، وذلك لإضفاء صفة تمييزية على «العمل» وعلى «الحياة». بحلول القرن التاسع عشر لم تكن من «حاجة للقول بأن حشود يوم السبت اتجهت إلى المسارح وصالات السينما، وكانت الأراضي قد جُهِّزت لانطلاق لعبة كرم القدم».

وكما جادل ثومپسون، فليس من الصواب أن نسأل أنفسنا «كيف سنستهلك كل وقت الفراغ الإضافي هذا؟» في عالم ما بعد الرأسمالية، لأن السؤال يفترض تعريفًا لوقت الفراغ يتصادم والاشتراكية، وهو تعريفٌ صِيغ على يد دُعاة العمل يوم السبت لنصف يوم. السؤال الحقيقي الآن، كيف ستكون قدرة الرجال على اختبار كل هذا الوقت غير الموجّه والمخصص للعيش؟».

«وخضوعًا لقوانين الرأسمالية الصناعية، فقد الناس فكرة الموازنة السليمة بين وقت الفراغ وبين وقت العمل».

يخلص ريد إلى أن «التخلص من يوم «الاثنين القديس» قد أذى الاحتمال الحقيقي لامتلاك الطبقة العاملة فرصة الحصول على وقت فراغٍ إضافي. أعطوهم نصف يوم عملٍ ولكن أخذوا بالمقابل يومًا كاملًا؛ وخضوعًا لقوانين الرأسمالية الصناعية، فقد الناس فكرة الموازنة السليمة بين وقت الفراغ وبين وقت العمل». لكن ذكرى يوم الإثنين أكثر من مجرد رثاء لشكل قديم من الحياة كان فيه العمل أكثر منطقية وكان لدينا فيها قدر أكبر من التحكم في إيقاعاته وقبل أن تتحول «تمضية الوقت بدون هدف» إلى شكل من أشكال اللعب المُنظم، ويمكننا اعتباره تذكيرًا بما قد يتم اكتسابه مرة أخرى. (بدأت بعض الدول الأوروبية باختبار نظام 4 أيام عملٍ في الأسبوع مقابل 3 أيام بدون عمل – المُترجم).

للاطلاع على كيف اُخترع الأسبوع وكيف صارَ وحدة قياس زمنية مُهمة في حياتنا، اضغط هنا.

بتحقيق المُجتمع الاشتراكي، لن يعود العمل فقط إلى عالم التحكم الواعي، بل وأيضًا إلى عالم الوضوح الأساسي، وستجف القوة وراء التحقير الوحشي للكحول وتعاطي المخدّرات -المسؤولة اليوم عن مأساة السجن الجماعي- من جذورها الاجتماعية؛ وستكون المدارس حُرة في اختيار أصول التدريس وأساليبه، وهي مهمة مستحيلة بسبب متطلبات التكييف الرأسمالي؛ وسيكون لدى الجميع الوقت والمساحة مرة أخرى «لإعادة تعلّم بعض فنون الحياة التي فقدوها في الثورة الصناعية: كيف يملؤون فجوات أيامهم بعلاقاتهم الشخصية والاجتماعية ونشاطاتهم الترفيهية الثريّة».


لقراءة المقالة الأصلية، اضغط هنا، ولمقالات أخرى عن اختراع إجازة نهاية الأسبوع: هنا، وهنا، وهنا، وهنا، وهنا.


[1]  يتمثل مفهوم الاغتراب/الاستلاب عند ماركس في أن العمال يشعرون بخيبة أمل تجاه عملهم ووجودهم لأنهم محكومين كليًا من التسلسل الهرمي لأرباب العمل والشركات التي تتحكم بمصائرهم من خلال التحكم بأنشطة الأعمال وتوجيهها، وبهذا يُخنق الإبداع والحُرية الفردية – الباحثون السوريون: https://www.syr-res.com/article/20729.html

[2]  نسبةً إلى المصلح الاجتماعي روبرت أوين، أحد واضعي أسس الاشتراكية المثالية والحركة التعاونية.

أضِف تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s