نحن بحاجة إلى استعادة عقولنا بينما يمكننا إنقاذها، إذ تدمر وسائل التواصل الاجتماعي والعديد من جوانب الحياة الحديثة قدرتنا على التركيز.
تشكل لدى آدم (الابن الروحي لكاتب المقالة أو الابن بالمعمودية في حالات التدين المسيحي) عندما كان في التاسعة من عمره هوس قصير ومكثف وغريب بإلڨيس بريسلي، وقد أخذ يؤدّي أغنية Jailhouse Rock بأعلى صوته مع تحريكه لوسطه كما كان يُحركه إلڨيس. نظر إليَّ ذات يوم بجدّية بينما كنت أجهزه للنوم في فراشه، وسألني: «يوهان، هل ستأخذني إلى گرايسلاند[1] يومًا ما؟» وافقت دون أدنى تفكير في السؤال. ولم أفكر في الأمر إلا بعد فوات الأوان..
ضاع آدم مني بعد عشر سنوات، وكان قد ترك المدرسة في سنّ الخامسة عشرة، واعتاد قضاء معظم ساعات يقظته تقريبًا متناوبًا بين الشاشات مشدوهًا ومتنقلًا بين اليوتيوب والواتساب والمواد الإباحية (غيَّرتُ اسمه وبعض التفاصيل الصغيرة للحفاظ على خصوصيته). بدا وكأنه يتحرك بسرعة سناب شات، ولم يعد أي شيء يجذبه كما كان، وخلال العقد الذي أصبح فيه آدم رجلاً، حدث هذا التمزّق البين-ذاتي مع الكثيرين منا. كانت قدرتنا على إيلاء الأمور الانتباه متصدعة ومنهارة. بلغت الأربعين من عمري للتو، وفي أي مكان أجتمع فيه مع أبناء جيلي، نأسف على فقدنا لمقدرتنا على التركيز. ما زلت أقرأ الكثير من الكتب، ولكن مع مرور كل عام، قدرتي على التركيز والقراءة صارت تشبه درجًا كهربائيًا يتجه إلى الأسفل. ثم في إحدى الأمسيات وبينما كنَّا مستلقين على أريكتي وكل منا يحدق في شاشاتنا الصارخة بلا توقف، نظرت إلى آدم وشعرت بفزع شديد؛ قلت بهدوء: «آدم، لنذهب إلى گرايسلاند»، وذكرته بالوعد الذي قطعته على نفسي. استطعت أن أرى أن فكرة كسر هذا الروتين المخدّر أيقظت فيه أمرًا، لكنني أخبرته بوجود شرطٍ واحدٍ عليه الالتزام به إذا ذهبنا. ينبغي له أن يغلق هاتفه في أثناء خروجنا، وأقسم أنَّه سيغلقه.

لم يعد في المتحف إنسان يأخذك في جولة عند وصولك إلى بوابات گرايسلاند، بل يعطونك جهاز آيپاد، وتضع سماعات أذن صغيرة، ويخبرك الآيپاد بما يجب القيام به، انعطف يسارًا أو يمينًا أو واصل المشي. تظهر في كل غرفة صورة لمكان وجودك على الشاشة بينما يصفها الراوي. لذلك وفي أثناء تجولنا كنا محاطين بأشخاص بوجوه فارغة وينظرون في كل الأوقات تقريبًا إلى شاشاتهم. شعرت بالتوتر أكثر فأكثر مع مواصلة المشي. عندما وصلنا إلى غرفة الأدغال، المكان المفضل لإلڨيس في القصر، كان جهاز الـ iPad يثرثر بعيدًا عندما استدار رجل في منتصف العمر يقف بجواري ليقول شيئًا لزوجته. كان بإمكاني رؤية النباتات المزيفة الكبيرة التي اشتراها إلڨيس أمامنا لتحويل هذه الغرفة إلى غابة اصطناعية خاصة به. قال: «عزيزتي، هذا رائع، انظري». لوَّح الآيباد في اتجاهها، وبدأ بتحريك إصبعه عليه. «إذا مرّرتِ إلى اليسار، سترين غرفة الأدغال إلى اليسار، وإذا مرّرتِ لليمين، سترين غرفة الأدغال إلى اليمين».
حدقت زوجته في الجهاز وابتسمت وبدأت بالتمرير على الـ iPad الخاص بها. أحنيت رأسي باتجاههم قليلًا، وقلتُ: «لكن يا سيدي، يوجد شكل قديم من التمرير عليك تجريبه، عليك فقط أن تحرك رأسك لأننا هنا في الغرفة. نحن في غرفة الأدغال، ويمكنك رؤيتها بعينيك. هنا. انظر». لوحت بيدي وخشخشت الأوراق الخضراء المزيفة. عادت عيونهم إلى شاشاتهم. قلت لهم: «انظروا! هل ترون؟ نحن في الغرفة الحقيقية. لا مدعاة للنظر إلى الشاشة. نحن في غرفة الأدغال». سارعوا بالخروج حينها. التفت إلى آدم مستعدًا للضحك على الموقف إلا أنه كان في في زاوية الغرفة ويحمل هاتفه تحت سترته ويتصفح سناب شات.
أخلفَ آدم وعده في كل مراحل الرحلة. عندما هبطت الطائرة لأول مرة في نيو أورلينز قبل أسبوعين، أخرج هاتفه ونحن في مقاعدنا. قلت: «لقد وعدت ألا تستخدمه». قال: «قصدت أنني لن أجري مكالمات هاتفية. لا يمكنني استخدام سناب شات والرسائل النصية، بالطبع». قال هذا بصدق محير، كأنني طلبت منه أن يحبس أنفاسه لمدة 10 أيام. استفزني الموقف في غرفة الأدغال وحاولت انتزاع هاتفه من قبضته فجأة وهو ما دفعه للخروج مبتعدًا. وجدته في تلك الليلة يستمع إلى أغنية Heartbreak Hotel ويجلس بجوار حمام سباحة (على شكل غيتار عملاق)، ويبدو حزينًا. أدركت عندما جلست معه، وأنا غاضب للغاية، أن غضبي تجاهه كان حقًا غضبًا تجاه نفسي. شعرتُ لعدم قدرته على التركيز على أنه أمر يحدث معي أيضًا. كنت أفقد قدرتي على الحضور، وكرهت نفسي لذلك. قال آدم ممسكًا بهاتفه في يده: «أعلم بوجود المشكلة، لكن ليس لدي أي فكرة عن كيفية إصلاحها»، ثم عاد إلى التراسل النصي.

أدركت حينها أنني بحاجة إلى فهم ما كان يحدث له حقًا وللكثيرين منا، وتحولت تلك اللحظة إلى بداية رحلة غيرت طريقة تفكيري عن الانتباه. سافرت حول العالم في السنوات الثلاث التالية، من ميامي إلى موسكو إلى ملبورن، وأجريت مقابلات مع كبار الخبراء في العالم حول التركيز. أقنعني ما تعلمته بأن ما نواجهه الآن ليس قلقًا عاديًا بشأن الانتباه من النوع الذي يمر به كل جيل مع تقدمه في السن، بل نحن نعيش في أزمة انتباه خطيرة… أزمة لها تداعيات هائلة على طريقة عيشنا. لقد تعلمت وجود اثني عشر عاملاً ثبت أنها تقلل من قدرة الناس على الانتباه وأن العديد من هذه العوامل قد تزايدت وتكاثرت في العقود القليلة الماضية.
ذهبت إلى پورتلاند، أوريگون، لإجراء مقابلة مع البروفيسور چويل نيگ، وهو أحد الخبراء الرائدين في العالم في مشاكل انتباه الأطفال، وأخبرني أننا بحاجة إلى أن نسأل عما إذا كنا نخلق الآن «ثقافة مسببة للأمراض»، بيئة حيث يكون التركيز المستمر والعميق أصعب علينا جميعًا. عندما سألته عما سيفعله إذا كان مسؤولاً عن ثقافتنا وأراد بالفعل تدمير انتباه الناس، قال: «على الأرجح ما يفعله مجتمعنا الآن». وأخبرتني البروفيسورة باربرا ديمينيكس، العالمة الفرنسية البارزة التي درست بعض العوامل الرئيسة التي يمكن أن تعطل الانتباه: «لا توجد طريقة يمكننا من خلالها أن يكون لدينا دماغ طبيعي اليوم». يمكننا أن نرى التأثيرات في كل مكان من حولنا. وجدت دراسة صغيرة لطلاب الجامعات أنهم يركزون الآن فقط على أي مهمة لمدة 65 ثانية، ووجدت دراسة مختلفة للعاملين في المكاتب بأنهم يركزون فقط في المتوسط لمدة ثلاث دقائق، ولا يحدث هذا لأننا أصبحنا جميعًا ضعيفي الإرادة، بل لوجود من يسرق انتباهنا منا.
«وجدت دراسة صغيرة لطلاب الجامعات أنهم يركزون الآن فقط على أي مهمة واحدة لمدة 65 ثانية»
Tweet
عندما عدت من گرايسلاند لأول مرة، اعتقدت أن انتباهي يتشتت لأنني لم أكن قويًا بما يكفي كفرد ولأن هاتفي قد تمكَّن منِّي. دخلت في دوامة من الأفكار السلبية ووبَّخت نفسي. أخذتُ أقول بيني وبين نفسك: أنت ضعيف… أنت كسول… أن لست منضبطًا البتَّة. اعتقدت بوضوح الحل: بعض الانضباط والابتعاد عن الهاتف. لذلك دخلت على الإنترنت وحجزت لنفسي غرفة صغيرة على الشاطئ في پروفينستاون، عند طرف كيپ كود[2]. لقد أعلنت منتصرًا للجميع بأني سأبقى هناك لمدة ثلاثة أشهر، بدون هاتف ذكي ولا حاسوب متصل بالإنترنت. تعبت. سئمت من كوني متصلًا بالإنترنت على الدَّوام. أعرف تمامًا أن إمكانية تنفيذ ذلك كانت متاحة لأني محظوظ ولأني لدي بعض المال من كتبي السابقة، وكنت أعرف تمامًا أنه ليس حلَّا دائمًا. فعلت ذلك لأنني اعتقدت أني إذا لم أفعله، فقد أفقد بعض الجوانب الحاسمة من قدرتي على التفكير العميق. وكنت آمل أيضًا أنه وبتجردي من كل شيء لبعض الوقت، قد ألاحظ التغييرات التي يمكننا إجراؤها جميعًا بطريقة أكثر استدامة.
تعثرت في أول أسبوع لي بدون إنترنت في دوامة تخفيف الضغط. پروفينستاون مدينة منتجعية صغيرة للمثليين وبها أعلى نسبة أزواج مثليين في الولايات المتحدة. أكلت الكعك وقرأت الكتب وتحدثت مع الغرباء وغنيت الأغاني. كل شيء تباطأ كُلِّيًا. كنتُ بالعادة أتابع الأخبار كل ساعة أو نحو ذلك، وأحصل على موجز من الحقائق المثيرة للقلق وأحاول دمجها محاولًا استيعابها، ولكني الآن أقرأ جريدة ورقية مرة في اليوم. أشعر كل بضع ساعات، بإحساس غير مألوف يقرقر بداخلي وأسأل نفسي: ما هذا؟ أه نعم. إنه الهدوء.

أدركت لاحقًا، عندما أجريت مقابلات مع الخبراء ودرست أبحاثهم، وجود العديد من الأسباب التي جعلت انتباهي يبدأ في التعافي منذ ذلك اليوم الأول. أوضح لي البروفيسور إيرل ميللر، عالم الأعصاب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أحدها. قال «يمكن لعقلك أن ينتج فكرة أو فكرتين فقط» في عقلك الواعي في وقت واحد. هذا كل ما في الأمر. «نحن كائنات تملك القدرة على التفكير في فكرة واحدة فقط». لدينا «قدرة معرفية محدودة للغاية». لكننا وقعنا في وهم عظيم. يعتقد المراهق العادي الآن أنه يمكنه متابعة ست تطبيقات تواصل اجتماعي في الوقت نفسه. عندما درس علماء الأعصاب هذا وجدوا أنه عندما يعتقد الناس أنهم يقومون بالعديد من الأشياء في وقت واحد، فإنهم في الواقع يتنقلون فيما بينها. «إنهم يتنقَّلون جيئة وذهابًا، ولا يلاحظون التبديل لأن عقولهم تغطيها لتعطيهم تجربة سلسة للوعي، لكن ما يفعلونه في الواقع هو التبديل وإعادة تكوين دماغهم لحظة بلحظة، من مهمة إلى مهمة ولهذا الأمر تكلفته». تخيل على سبيل المثال أنك تكتب تكليفًا للعمل أو للجامعة وتتلقى رسالة نصية وتنظر إليها، مجرد نظرة سريعة تستغرق ثلاث ثوانٍ، ثم تعود إلى تكليفك. يواصل: في تلك اللحظة «يجب على دماغك أن يعيد تشكيل نفسه عندما ينتقل من مهمة إلى أخرى». عليك أن تتذكر ما كنت تفعله من قبل، وعليك أن تتذكر بما فكّرت. عندما يحدث هذا، يُظهر الدليل أن «أداؤك ينخفض. تصير أبطأ. كل ذلك نتيجة التبديل».
وهذا ما يسمى «تأثير تكلفة التبديل»، ويعني أنك إذا فحصت رسائلك في أثناء محاولتك العمل، فأنت لا تضيع فقط فترات الوقت التي تقضيها في النظر إلى الرسائل نفسها، بل تضيع أيضًا الوقت الذي تستغرقه لإعادة التركيز بعد ذلك والذي اتضح أنه وقت طويل. أجريت إحدى الدراسات على سبيل المثال في مختبر التفاعل البشري الحاسوبي بجامعة كارنيگي ميلون، حيث ضمت 136 طالبًا وحملتهم على إجراء اختبار. اضطر بعضهم إلى إغلاق هواتفهم، والبعض الآخر كانت هواتفهم قيد التشغيل وتلقوا رسائل نصية بشكل متقطّع. كان أداء الطلاب الذين تلقوا الرسائل، في المتوسط، أسوأ بنسبة 20٪ من غيرهم، ويبدو لي أن جميعنا تقريبًا نفقد حاليًا 20٪ من قوتنا العقلية، طوال الوقت تقريبًا. أخبرني ميللر أنه نتيجة لذلك فإننا نعيش الآن في «عاصفة تدهور إدراكي مكتملة الأركان».
كنت في پروفينستاون لأول مرة منذ فترة طويلة جدًا أفعل أمرًا واحدًا فقط في الآن ذاته، دون مقاطعة. كنت أعيش ضمن حدود ما يمكن أن يتعامل معه عقلي بالفعل. شعرت أن انتباهي ينمو ويتحسن مع كل يوم يمر، ولكن بعد ذلك، ذات يوم، واجهت انتكاسة مفاجئة. فبينما سرتُ على الشاطئ، رأيت الأمر الذي كان يُحكنّي منذ مغادرتي ممفيس. يبدو أن الناس يستخدمون پروفينستاون ببساطة كخلفية لصور السيلفي، ونادرًا ما كانوا ينظرون إلى السماء أو إلى المحيط أو في وجوه بعضهم البعض. في تلك اللحظة، لم أشعر بالحاجة إلى الصراخ بهم: أنت تهدرون حياتكم، اتركوا الهاتف اللعين. بل شعرت بالحاجة إلى الصراخ: أريد هاتفي. تلقيت لوقت طويل إشارات قليلة وملحة من الويب كل بضع ساعات على مدار اليوم، وكان بريق الإعجابات والتعليقات يقول لي: إنّي أراك. أنت تهم. الآن لم تعد هذه الإشارات تعني لي شيئًا. قالت سيمون دي بوفوار إنها عندما أصبحت ملحدة، شعرت أن العالم قد صمت. شعرت هكذا بفقداني لتلك الحاجة إلى الإنترنت، وبعد التخلّي عن الحرارة الخطابية لوسائل التواصل الاجتماعي، بدت التفاعلات الاجتماعية العادية مُرضية، ولكنها قليلة. لا يوجد تفاعل اجتماعي عادي يفيض بقلبك.

أدركت أن التخلص من المشتتات لم يكن كافيًا لعلاج انتباهي. صحيح أنه يشعرك بالرضا في البداية، ولكنه بعد ذلك يخلق فراغًا حيث كانت كل الضوضاء. أدركت أنه كان عليّ ملء الفراغ، وبدأت أفكر كثيرًا في إحدى مجالات علم النفس التي تعلمتها قبل سنوات: علم حالات التدفق. تقريبًا كل شخص يقرأ هذا سيكون قد مر بحالة تدفق في مرحلة ما من حياته، ويحصل التدفق عندما تفعل شيئًا ذا قيمة ومعنى بالنسبة لك، وتنغمس فيه حقًا، وتفقد على إثر ذلك شعور بالوقت، ويتلاشى إحساسك بذاتك، وتجد نفسك تركز بعمق ودون عناء. التدفق هو أعمق أشكال الانتباه الذي يمكن أن يعييه الإنسان. ولكن كيف نصل إليه؟
قابلت لاحقًا البروفيسور ميهالي تشيكسينتميهالي في كليرمونت، كاليفورنيا، الذي كان أول عالم يدرس حالات التدفق ويبحث فيها لأكثر من 40 عامًا، وتعلمن من خلال بحثه، وجود ثلاثة عوامل رئيسة يحتاجها الإنسان للدخول إلى حالة التدفق. تحتاج أولاً إلى تحديد هدف واحد، يأخذ التدفق كل طاقتك العقلية، ويركزّها مُتعمدًا في اتجاه واحد. ثانيًا، يجب أن يكون هذا الهدف ذا قيمة ومعنى لك، إذ لا يمكنك الانصياع إلى هدف لا تهتم به. ثالثًا، من المفيد أن يكون ما تفعله على طرف قدرتك على تنفيذه، على سبيل المثال، أن تكون الصخرة التي تتسلقها الآن أعلى قليلاً وأصعب من آخر صخرة تسلقتها. بدأت لذلك في كل صباح كتابة نوع مختلف من الكتابة عن أعمالي السابقة، وهو نوع يرهقني. أخذتُ في غضون أيام قليلة أدلف إلى حالة التدفق والتي تستمر ساعات من التركيز دون أن أشعر بأي صعوبة، شعرت أنني كنت أركز بالطريقة التي كنت أركز بها عندما كنت مراهقًا لأوقات طويلة بلا مجهود. كنت خائفًا من أني سأفقد عقلي سابقًا، أما الآن فقد بكيت بارتياح لإدراكي أنه وفي الظروف المناسبة يمكن أن تعود إلى عقلك قوته الكاملة (والكامنة).
كنت أجلس في نهاية كل يوم على الشاطئ وأراقب الضوء يتغير ببطء. يختلف الضوء الموجود على رأس الساحل عن الضوء في أي مكان آخر زرته في أي وقت مضى وكان بإمكاني في پروفينستاون أن أرى أفكاري وأهدافي وأحلامي بوضوح أكثر من أي وقت مضى في حياتي. كنت في حالة تجلٍ. لذلك عندما حان الوقت لمغادرة منزل الشاطئ والعودة إلى عالم الارتباط التشعبي، أصبحت مقتنعًا بأنني حللت لغز الانتباه. عدت إلى العالم مصممًا على دمج الدروس التي تعلمتها في حياتي اليومية. عندما تم لم شملني بهاتفي وجهاز حاسوبي بعد استقلالي للعبَّارة إلى حيث كانوا مختبئين في بوسطن، بدت الأجهزة كأنيها غريبة، لكن وفي غضون بضعة أشهر، عاد الوقت الذي أمضيته أمام الشاشة إلى أربع ساعات في اليوم، وكان انتباهي يضعف وينكسر مرة أخرى.

أخبرني مهندس غوغل السابق في موسكو جيمس ويليام، والذي صار من أهم فيلسوف للانتباه في العالم الغربي، أنني ارتكبت خطأً فادحًا، فالامتناع الفردي «ليس حلّاً، لنفس السبب الذي يجعل ارتداء قناع الغاز لمدة يومين في الأسبوع ليس حلًل للتلوث. قد يبعد عنّا تأثيرات معينة، لكنه غير مستدام، ولا يعالج المشكلات النظامية». قال إن انتباهنا يتغير بعمق بفعل قوى غزوٍ ضخمة في المجتمع الأوسع، وذكر بأن أي ادّعاء بأن الحل يكمن في تعديل عاداتك، والتعهد بالانفصال عن هاتفك، على سبيل المثال ليس إلا محاولة لتحميل الأفراد مسؤولية الخلل في النظام، في حين أن «التغييرات البيئية هي التي تحدث الفرق حقيقي»
أخبرني نيگ، لأفهم ما يحدث، أن أُقارن مشاكل الانتباه المتزايدة لدينا بمعدلات السمنة المتزايدة. كانت معدلات السمنة قبل خمسين عامًا قليلة، لكنها اليوم متوطنة في العالم الغربي، وليس هذا لأننا صرنا جشعين فجأة أو منغمسين في لذاتنا، حيث إن «السمنة ليست وباء طبيًا، بل وباء اجتماعي، لدينا طعام سيء، على سبيل المثال، وبالتالي سيصبح الناس بدينين». تغيرت الطريقة التي نعيش بها بشكل كبير، تغيرت إمداداتنا الغذائية وبنينا مدنًا يصعب السير فيها أو قيادة الدراجة فيها، وأدت تلك التغييرات في بيئتنا إلى تغييرات في أجسامنا. اكتسبنا كتلة بشكل جماعي، وأشار نيگ إلى أن شيئًا مشابهًا قد يحدث مع التغييرات في انتباهنا.
«تغيرت الطريقة التي نعيش بها بشكل كبير، تغيرت إمداداتنا الغذائية وبنينا مدنًا يصعب السير فيها أو قيادة الدراجة فيها، وأدت تلك التغييرات في بيئتنا إلى تغييرات في أجسامنا».
Tweet
تعلمت أن العوامل التي تضر بانتباهنا ليست كلها واضحة، وأعلم بأني ركزت على التكنولوجيا في البداية، ولكن في الواقع، تتنوع الأسباب على نطاق واسع جدًا، فمن الطعام الذي نتناوله إلى الهواء الذي نتنفسه، ومن ساعات العمل إلى الساعات التي لم نعد ننام فيها، وتشمل العديد من الأمور التي نأخذها مسلمات، من الطريقة التي نحرم بها أطفالنا من اللعب، إلى كيفية تجريد مدارسنا للتعلم من معناه عبر إسناد كل شيء إلى الاختبارات. لقد توصلت إلى الاعتقاد بأننا بحاجة إلى الرد على هذا الغزو المستمر لانتباهنا على مستويين. الأول فردي، حيث توجد كل أنواع التغييرات التي يمكننا إجراؤها على المستوى الشخصي والتي ستحمي تركيزنا. أود أن أقول إنه من خلال القيام بمعظمها، فقد عززت تركيزي بنحو 20٪. لكن علينا أن نعي الاختلافات بين البشر. تحل هذه التغييرات مشاكل لحظية وغير دائمة، وفي الوقت الحالي، يبدو الأمر كما لو أننا جميعًا مصابون بالوحمة والحكة لنتفقد هواتفنا طوال اليوم، ويخبرنا الناس الذين يسببون لنا هذه التشظيّ: «قد ترغبون بممارسة التأمل، وحينها لن ينقطع انتباهكم». التأمل أداة مفيدة، لكننا في الواقع نحتاج إلى منع الناس الذين يدّمرون انتباه المُجتمع من فعل ما يفعلونه، نحن بحاجة إلى التكاتف معًا لمواجهة القوى التي تسرق انتباهنا وأن نستعيده.
قد تبدو فكرتي حالمة بعض الشيء، إلا أني قابلت أشخاصًا يطبقونها في العديد من الأماكن، ولأقدم مثال واحد: يوجد دليل علمي قوي على أن الإجهاد والإرهاق يفسدان قدرتك على إيلاء الانتباه. يشعر اليوم حوالي 35٪ من الموظفين أنه لا يمكنهم إغلاق هواتفهم أبدًا لأن رئيسهم قد يرسل لهم بريدًا إلكترونيًا في أي وقت من النهار أو الليل. قرر العمال العاديون في فرنسا أن هذا أمر لا يُحتمل وضغطوا على حكومتهم من أجل التغيير، وصار لديهم «الحق في قطع الاتصال بالإنترنت». الأمر سهل. لديك الحق في ساعات عمل محددة، ولديك الحق بألّا يتصل عليك مديرك خارج أوقات العمل، وعلى الشركات التي تخرق القواعد أن تدفع غرامات ضخمة. توجد الكثير من التغييرات الجماعية المحتملة مثل هذه التي يمكنها استعادة جزء من تركيزنا. يمكننا، على سبيل المثال، إجبار شركات وسائل التواصل الاجتماعي على التخلي عن نموذج أعمالها الحالي، والذي صُمِّم خصيصًا لجذب انتباهنا ليضمنوا استمرارنا في تصفح مواقعهم، وتوجد طرق بديلة يمكن أن تعمل بها هذه المواقع، طرقٌ من شأنها جذب انتباهنا بدلاً من اختراقه.
يقول بعض العلماء إن هذه المخاوف بشأن الانتباه تسبب ذعرًا أخلاقيًا، ويمكن مقارنتها بالقلق في الماضي بشأن الكتب المصورة أو موسيقى الراب، وأن الأدلة غير واضحة. ويقول علماء آخرون إن الأدلة قوية وأن هذه المخاوف تشبه التحذيرات المبكرة بشأن وباء السمنة أو أزمة المناخ في السبعينيات. أعتقد أنه بالنظر إلى حالة عدم اليقين هذه، لا يمكننا انتظار دليل واضح ومؤكّد. علينا أن نتصرف بناءً على تقييم معقول للمخاطر. إذا تبين أن الأشخاص الذين يحذرون بشأن التأثيرات على انتباهنا مخطئون، ولكننا عملنا ما نصحونا به، فماذا نخسر؟ سنأخذ جزءًا من حياتنا اليومية بعيدً عن العمل وأربابه، وسيقل تعقب وتلاعب التكنولوجيا لنا وبنا بنا إلى جانب الكثير من التحسينات الأخرى، ولكن إذا تبين أنهم على حق، ولم نفعل ما يقولون، فماذا نخسر؟ سيقتل مستوى إنسانيتنا، حسب كلمان مهندس غوغل السابق تريستان هاريس، وسنتجرّد من انتباهنا في نفس الوقت الذي نواجه فيه أزمات جماعية كبيرة تتطلب انتباهنا أكثر من أي وقت مضى.
لكن لن يحدث أي من هذه التغييرات ما لم نكافح من أجلها. مثلما استعادت الحركة النسوية حق المرأة في جسدها (ولا يزال يتعين عليها الكفاح من أجل ذلك حتى اليوم)، أعتقد أننا الآن بحاجة إلى حركة انتباه لاستعادة عقولنا. أعتقد أننا بحاجة إلى التحرك بشكل عاجل، لأن هذا قد يكون مثل أزمة المناخ، أو أزمة السمنة، فكلما طال انتظارنا، زادت صعوبة الأمر. كلما زاد تدهور انتباهنا، كلما كان من الصعب استدعاء الطاقة الشخصية والسياسية لمواجهة القوى التي تسرق تركيزنا. الخطوة الأولى التي تتطلبها هي تغيير في وعينا. نحن بحاجة إلى التوقف عن إلقاء اللوم على أنفسنا، أو المطالبة بتعديلات صغيرة من أرباب العمل ومن شركات التكنولوجيا. نحن نمتلك عقولنا، ومعًا يمكننا استعادتها من القوى التي تسرقها.
[1] قصرٌ في ممفيس بالولايات المُتحدة الأميركية كان يملكه المغني والممثل إلڨيس بريسلي أعيد افتتاحه بعد خمس سنوات من وفاة المغني ليكون متحفًا لحياته – المُترجم.
[2] رأس من اليابسة في المحيط.. مثل رأس الرجاء الصالح – المُترجم.
رأيان حول “من سرق منك انتباهك؟ | سلسلة النباهة في عصر التّفاهة”