مُقدّمة المُترجم:
قد يسأل أحدهم: «ما الضرر من أن تعرف شركات التكنولوجيا تفضيلاتي وأن تعطيني إعلانات مُخصصة لي؟»، ولكن لو توقف الأمر على الإعلانات، لكان هينًا، إذ تتحكم شركات التقنية بكل ما تتطلع عليهِ من منشورات وصور وأخبار، فهي تراقب تحركاتك عبر الإنترنت باستخدام الملفات تعريف الارتباط (cookies)، وتتبع تفضيلاتك السياسية والإعلامية والأدبية وحتى الإباحية منها، وتُصمم لك تجربة تعمل على دفعك نحو هذه التفضيلات فقط، دون غيرها، وهو ما يجعلك تعيش في فقاعتك مهما كانت، فتزيد من تطرف من المتطرفين ومن انقسام المنقسمين وانعزال الانعزاليين، وهو ما دفع الناس للعيش فيما يعرف بالغرف الصدوية Echo Chambers، بحيث لا يرون ولا يسمعون إلى ارتداد أفكارهم، فيظنون أن العالم ملكهم، ولا يرون الاختلاف، ولا يستفيدون من التنوع الموجود.
ولا يتوقف الأمر هُنا، بل توظف شركات التكنولوجيا مثل فيسبوك وغوغل وتويتر وشبيهاتها أقوى خبراء الخوارزميات والبرمجة وعلم النفس لتجد نقاط ضعف البشر وطرق تقويض انتباههم وإخضاعه لتطبيقاتهم لتضمن قضاء الناس لأكبر وقتٍ ممكن عليها، فكلما قضيتَ وقتًا أكثر، ربحت هذه الشركات أكثر، وهم يستغلون بذلك أذكى العقول في ترويض البشر والتلاعب فيهم، وكما يستطيع الإنسان العادي التحكم في بعض الحيوانات وأن يقودها من اتساع الحقلِ إلى ضيق الحظيرة، بحكم تفوقه عقليًا عليها، تعمل هذه الشركات على المبدأ نفسهِ، فهي تقود البشر قطعانًا من اتساع العالم إلى ضيق الهاتف المحمول، فلم تعد مواقع التواصل الاجتماعي تحقق غايتها في التواصل الاجتماعي بقدر ما هي أدوات تضييعٍ للوقت (في غالب الأحيان)، بل وثقب أسود لإهدار قدرات وطاقات البشر حول العالم وتدمير وعيهم وقدرتهم على الفعل والحركة على أرض الواقع.

لا أعمل عبر هذه السلسلة للدعوة إلى التخلي عن التكنولوجيا، وإنما لإيجاد استخدام واعٍ أكثر بها، ولمعرفة طريقة مناورة خوارزميتها، ولكيفية استغلال وقت الإنسان الطبيعي الاستغلال الأمثل، بدلًا من الاستهلاك الأعمى للمحتوى السيء والتافه المنشر عبر خدمات الفيديو المتنوعة مثل reels وتيك توك وغيرها، والتي تحشد بالمحتوى البصري عديم القيمة وقصير الانتباه. علينا أن نتحرك جميعًا لإيجاد حلٍ يدعو مثل هذه الشركات لتغيير طريقة عمل تطبيقاتها، وتغيير نموذج عملها الحالي، إلى نموذجٍ عملٍ يحترم الإنسان ووقته وطاقته، بدلًا من تدمير قدراته.
أرفقُ هنا ترجمتي لمقابلة مع الكاتب يوهان هاري، وهو كاتب المقالة الأولى في السلسلة عن سرقة الانتباه، والتي نشرتها على مدونتي الأسبوع الماضي، ويشرح هاري في المقابلة بشكلٍ أكثر وضوحًا ما قاله في كتابه وما قاله في مقالته حول سرقة الانتباه وحاجتنا إلى استعادته مرة أخرى من وحوش شركات التكنولوجيا الكبرى.
المقابلة مع يوهان هاري مع تقديم من شون إلينگ:
بتنا نعيش في عالم مشتت، ويكاد يكون من المؤكد أنه أكثر أوقات البشرية تشتتًا، وإذا كنتَ جزءًا من هذا السيرك، فأنت تغرق في الخيارات والأدوات والشاشات وتُسحبُ يوميًا ولحظيًا في مليون اتجاه دفعة واحدة. يعرف كل من يستخدم الإنترنت هذه الحقيقة، حيث يلاحقنا المعلنين وباعة المنتجات والمسوقين ويتسابقون على حصد انتباهنا وبيعه باستمرار. ويحصل هذا كله حسب نموذج العمل الذي تنبته شركات التكنولوجيا العملاقة.
نتابع هنا مع كتاب جديد للصحفي البريطاني يوهان هاري، بعنوان Stolen Focus، والذي يلقي نظرة فاحصة على ما يحدث -وما حدث- لانتباهنا الجماعي. ويجادل هاري بأننا جميعًا ضعنا في حياتنا الخاصة، والتي تبدو أكثر فأكثر وكأنها مهرجان للانحراف عمّا نريد فعله في الحقيقة، ويبدو أن الوضع يزداد سوءًا عامًا بعد عامٍ.
لا يقدّم كتاب هاري لنا مخططًا للهروب من كل هذا، وبعد اطلاعي على الكتاب، فأنا متشكك حيال قدرته على فعل أي شيء، ولكنه يشير إلى مشكلة ربما لا نتعامل معها بجدية كافية، ولذلك أخذت على عاتقي أن أتواصل معه لنتناقش حول ما حدث لانتباهنا، ومن يعتقد أنه سرقه، ولماذا يعد تشتت انتباهنا الجماعي أزمة حرجة.

شون إلينگ
أخبرتني بأن كل كتاب لك يسعى لفك لغز غامض، فما اللغز هنا؟
يوهان هاري
لاحظت أن حالة انتباهي تزداد سوءًا مع مرور الوقت، وشعرت أن الأمور التي تتطلب تركيزًا عميقًا، مثل قراءة كتاب أو مشاهدة فيلم طويل، تصير صعبةً أكثر فأكثر، مثل محاولة الركض على درج صعودًا وهبوطًا باستمرار. كنت قبلًا أقرأ وأشاهد دون مشاكل، وما زلت، ولكن الأمر يتعقّد مع كل لحظة أعيشها.، وما لاحظته أيضًا أن المشكلة ليست فردية، بل يعايشها معظم الأشخاص الذين أعرفهم، وما يزيدني حزنًا أنها تصيب الشباب أكثر من غيرهم والذين صاروا يعيشون في حياتهم ويتنقلون بين الشاشات والتطبيقات بسرعة سناب شات. (أيّ بسرعة القصص Stories).
أقنعت نفسي لفترة طويلة: «حسنًا، كل جيل يكافح من أجل انتباهه»، ويمكنك قراءة رسائل الرهبان قبل 1000 عام حيث يقول أحدهم للآخر، «انتباهي ليس كما كان من قبل»، بسبب التقدم في السن، وكلما شخت أكثر، يتدهور عقلك وتظن أن العالم يتدهور من حولك، لكنني أصبحت أعتقد أننا نمر حقًا بأزمة انتباه خطيرة للغاية، وهي أزمة تساعدنا على فهم الكثير من المشكلات التي نواجهها، كأفراد وجماعات، ويجب أن نعي أن انتباهنا لم يمت، بل سرقته من شركات التكنولوجيا، وهو ما يدفعنا للتفكير بطريقة مختلفة تمامًا حول مشاكل انتباهنا.
شون إلينگ
بقدر ما أنت محق، لماذا يعد الاعتداء على انتباهنا أزمة حقيقية؟
يوهان هاري
فكر في أي شيء حققته في حياتك، سواء كان ذلك إنشاء شركة أو تعلم العزف على الجيتار أو كونك أبًا صالحًا. هذا الشيء الذي تفتخر به يتطلب قدرًا كبيرًا من التركيز المستمر والاهتمام. وعندما ينهار الانتباه والتركيز وأعتقد أن هناك أدلة مقنعة على انهيارهما، تنهار قدرتك على تحقيق أهدافك وتضمحلُ قدرتك على حل مشاكلك اضمحلالًا كبيرَا.
كتبت كتابي على مستويين: أولاهما مستوى الانتباه الفردي. وكل ما قلته للتو صحيح عن الانتباه الفردي، وينطبق أيضًا على الانتباه الجماعي: إن المجتمع الذي لا يستطيع الانتباه لمشاكله جماعيًا، والذي يتشّكل من أشخاص يتفاعلون بشكل أساسي بديناميات تجعلهم غاضبين، هو مجتمع لا يستطيع حل أزماته.
كم عمرك يا شون؟
شون إلينگ
ما يقرب من 40 (يا ويلاه).
يوهان هاري
إذن أنت أصغر مني بثلاث سنوات. لقد كنت أفكر كثيرًا في أزمة طبقة الأوزون، فهي واحدة من أقدم ذكرياتي السياسية. وبالنسبة للمستمعين الأصغر سنًا الذين لا يعرفونها، فإن كوكب الأرض محمي بطبقة من الأوزون تحافظ على سلامتنا من أشعة الشمس، وعندما كنت طفلًا، اكتشفنا أننا نضعُ مادة كيميائية في مثبتات الشعر والثلاجات تسمى مركبات الكلوروفلوروكربون وتلحق الضرر بطبقة الأوزون. لا أشعر بالحنين إلى الثمانينيات. كثير من الأمور كانت مضطربة في سياسات الثمانينيات، ولكن فكر فيما حدث هنا. شُرحت القضية العلمية للناس العاديين، واستمعوا إليها وميزوها عن الأكاذيب ونظريات المؤامرة، وتجمَّع الناس العاديون معًا وضغطوا على ساستهم للتصرف، وقد وصلت التغيير إلى أكثر الساسة تطرفًا وأكثرهم عداءً للتنظيم الحكومي مثل مارجريت تاتشر وجورج بوش الأب، إلا أنهم اجتمعوا معًا لحل الأزمة، ونتيجة لجهودهم أخذت طبقة الأوزون بالالتئام. أثق أشدّ الثقة أن لو ازمة الأوزون قد وقت في أيمانا هذه، لما تحرّك أحدهم قيد أنملة لحلها.
بل العكس، سترى أشخاصًا يرتدون شارات طبقة الأوزون، وسترى آخرين يقومون بتصوير أنفسهم وهم يرشون مركبات الكلوروفلوروكربون في الغلاف الجوي لاستفزاز الليبراليين ودفعهم للبكاء. سنرى أناسًا يقولون: «كيف نعرف حتى أن طبقة الأوزون موجودة؟ ربما جورج سوروس[1] هو من ثقبَ طبقة الأوزون». حنضيع يا وديع! لن نكون قادرين على استدعاء الانتباه الجماعي.

شون إلينگ
أنا سعيد لأنك أتيت على ذكر هذا، لأني أعتقد أنه من الأسهل رؤية تكلفة فقدان السيطرة على انتباهنا على المستوى الفردي، لكنني أعتقد بوجودِ تكلفة سياسية مدفونة. ما نتحدث عنه هنا هو خلق إلهاء شامل للجماهير وهذا بالنسبة لي طريقة لإيجاد موافقة الجماعية، لكنها موافقة سلبية تأتي من أناسٍ منقسمين للغاية ومتفرقين لدرجة لا تسمح لهم بالتعبئة للدفاع عن أي شيء وهذه مشكلة كبيرة.
يوهان هاري
أحسنتَ توصيف الأمر. ولكني أود أن أقول إن الأمر أسوأ. ليس الأمر أنهم لا يستطيعون التعبئة للدفاع عن أي شيء، على العكس، إذ غالبًا ما ينتهي بهم الأمر إلى التعبئة بإخلاص تام لأسباب مجنونة، بأوهام جنونية تمامًا، مثل نظرية مؤامرة كيو أنون QAnon[2].
شون إلينگ
لماذا نفترض هذا؟
يوهان هاري
الأمر مثير للاهتمام، عندما بدأت العمل على الكتاب، قلت للناس، «أفكر في تأليف كتاب عن الانتباه والتركيز»، فردّوا عليّ، «أوه، لا بدّ أنت تكتب كتابًا عن الهواتف الذكية»، وما أدهشني حقًا في البحث هو وجود جوانب من تقنيتنا تدمر بشدة قدرتنا على التركيز ويمكنننا إصلاحها، إذ أن الميزة التدميرية لها ليست متأصلة فيها، بل في طريقة إدارتها واستخدامها. قضيت وقتًا طويلًا في وادي السيليكون لإجراء مقابلات مع بعض المعارضين البارزين هناك، وهم أشخاص صمموا جوانب رئيسة من العالم الذي نعيش فيه الآن (مبرمجون ومصممون وعلماء)، وقد أصبحت بعض جوانب عنصر الانتباه الفردي مفهومة بالنسبة لي بعد حديثي معهم. من المهم أن نقول، على الرغم من ذلك، إن الطريقة التي تريدنا بها شركات التكنولوجيا الكبيرة تأطير هذا النقاش هي، هل أنت مؤيد للتكنولوجيا أم مناهض لها؟ وهذا التأطير يحثنا على اختيار جانب دون آخر، ونحن لا ندعو للتخلي عن التكنولوجيا إطلاقًا.
السؤال الحقيقي هو، ما نوع التكنولوجيا التي نريدها ومصالح مَن يجب أن تخدم؟

شون إلينگ
إذن، المشكلة ليست في التكنولوجيا، بل في نموذج عملها؟
يوهان هاري
يقع نموذج العمل في قلب الإشكالية. لذلك وعند فتحك لتطبيق الفيسبوك أو أي من تطبيقات الوسائط الاجتماعية الرائجة، تبدأ هذه الشركات بجني الأموال على الفور بطريقتين: الطريقة الأولى واضحة. تشاهد الإعلانات وهم يكسبون المال من الإعلانات. الطريقة الثانية أهم بكثير، حيث يتم فحص كل ما تفعله على فيسبوك وتصنيفه لإنشاء ملف تعريف لك، ولنفترض أنك تحب دونالد ترامب وأخبرت والدتك أنك اشتريت للتو بعض الحفاضات. تفحص خوارزميات الموقع هذه البيانات وتصنفها إلى أن هذا الشخص يحب دونالد ترامب، وربما يكون محافظًا. ويتحدث عن الحفاضات، وبالتالي لديه طفل، فينشئون ملفًا باسمكَ لبيعه للمعلنين. كوما يقول الناس في وادي السيليكون دائمًا، أنت لست عميلًا لفيسبوك، بل أنت منتجهم الذي يبيعونه للمعلنين.
الآلية بأكملها، نموذج العمل هذا بأكمله له تأثير: في كل مرة تلتقط فيه هاتفك أو تفتح الفيسبوك وتتصفحه، تكسب الشركة المزيد من المال، وفي كل مرة تترك هاتفك بعيدًا، تختفي تدفقات إيراداتهم، لذا فهم يكرّسون كل قوتهم الخوارزمية، وكل عبقريتهم الهندسية وبعض الأشخاص الأكثر ذكاءً في العالم لتحقيق هدف واحد: «كيف يمكنني أن أجعل شون يلتقط هاتفه كثيرًا ويتصفح التطبيق/الموقع لأطول فترة ممكنة؟»
شون إلينگ
تقر في الكتاب بعدم اكتمال الأدلة، وقلتَ «ليس لدينا أي دراسات طويلة المدى تتبع هذه التغييرات في قدرة الناس على التركيز بمرور الوقت»، لذلك يجب أن أسأل، ما مقدار الجانب القصصي والتخميني مُقارنة لجانب البيانات المدعومة بالأدلة في كتابك؟
يوهان هاري
إنه سؤال مهم حقًا وهو سؤال أتعامل معه في كافة صفحات الكتاب. توجد طريقتان يمكننا عبرهما التوصل بشكل معقول إلى نتيجة مفادها أننا في أزمة انتباه. الطريقة المثلى هي أن يكون شخص ما قبل 200 عام، حتى قبل قرن من الزمان، قد بدأ في إجراء اختبارات انتباه على الناس العاديين وواصل فعلها كل عام منذ ذلك الحين. سيكون هذا دليلًا قاطعًا، وستكون لدينا درجة عالية جدًا من الثقة، بنفس الطريقة التي نعرف بها أن اختبارات الذكاء قد أُجريت بطرق متشابهة إلى حد كبير لأكثر من قرن. إلا أن أحدًا لم يفعل ذلك. لم تُجمع البيانات، ولذلك لا يمكننا استخلاص استنتاجاتنا بهذه الطريقة.
لكني أعتقد بوجودِ طرق معقولة يمكننا الاستدلال عليها من مجموعات أدلة أخرى. دعونا نلقي نظرة على شيء محدد مثل النوم، حيث تشير الأدلة العلمية الدامغة على أنه إذا نمت أقل من الوقت الطبيعي، فإن انتباهك سيتدهور، وإذا بقيت مستيقظًا لمدة 19 ساعة، فسيكون انتباهك سيئًا كما لو كنت مخمورًا. ودليل ذلك واضح جدًا.
لدينا أيضًا أدلة جيدة جدًا، على الرغم من عدم وجود إجماع عليها، على أننا ننام أقل بكثير مما اعتدنا عليه في السابق، فـ 15 في المئة فقط من الأميركيين يستيقظون وهم يشعرون بالانتعاش. إحصائيات النوم في أميركا مُقلقة، وقد راجعتها في الكتاب وتثبت أننا ننام أقل من الطبيعي. أعتقد أن الرقم، إذا كنت أتذكر جيدًا هو ما يقرب 37 في المئة من الأميركيين ينامون أقل من سبع ساعات في الليلة، وعندما تحدثت إلى الدكتور تشارلز تشيزلر، وهو أحد الخبراء الرائدين في العالم في مجال النوم في كلية الطب بجامعة هارفارد، قال إنه، حتى لو كان هذا هو التغيير الوحيد الذي حدث، فنحن ننام أقل بكثير، ومن شأن هذا وحده أن يسبب أزمة انتباه كبيرة حقًا.
وتتفاعل هذه التغييرات مع التغييرات الأخرى. إذا كان لديك ليلة تنام فيها لمدة ست ساعات، فستكون أكثر ميلًا إلى لقضاء وقتٍ أطول على مواقع التواصل الاجتماعي، مما يجعلك أكثر عرضة لهذه التقنيات الغَازِيَة.

شون إلينگ
بالعودة إلى الجزء التقني من الحوار، توجد حالة دائرية محبطة للغاية بالنسبة لي. تتغذى صناعة التكنولوجيا على حالتنا المشتتة، وهذا يعني أن المحتوى الذي تنتجه مصمم بشكل متزايد لسكان مشتتي الذهن، وكلما زاد استهلاكنا لهذا المحتوى، زاد جذب الانتباه وزادت الطعوم النقرية، وبالتالي، كلما زاد استهلاكنا لهذا المحتوى، زادت شراهته في التغذي على انتباهنا
سمعت أنك تذكر منظّر الإعلام الكندي مارشال ماكلوهان من قبل. لقد صاغ هذه العبارة، «الوسيط هو الرسالة». كانت النقطة الأساسية هي أننا بدأنا في التشابه مع أدوات الاتصال السائدة لدينا. نتعرف على العالم من خلال التلفزيون ونبدأ في التفكير مثل التلفزيون، ونبدأ في رؤية العالم من خلال عيون التلفزيون. نتعرف على العالم من خلال الإنترنت ونبدأ في التفكير والتواصل مثل الإنترنت.
وكل هذه الأنشطة البشرية التي تظهر على هذه المنصات تبدأ في التشابه معها أيضًا. أصبحت الطريقة التي نمارس بها السياسة الآن انعكاسًا للتلفزيون والإنترنت والحوافز التجارية التي تدفعها في وجوهنا. يتنافس السياسيون الآن لجذب انتباهنا وعليهم أن يتصرفوا بطرق سخيفة بشكل متزايد للقيام بذلك لأن هذه هي الطريقة التي تجذب الانتباه في هذا السوق الذي شكلته هذه التقنيات. لذلك يبدو الأمر وكأننا في حلقة مُفرغة غير منتهية مثل هامستر يجري داخل عجلة.
يوهان هاري
أعتقد أنك عبّرت عن الأمر ببراعة منقطعة النظير. الكلمة الوحيدة التي سأختلف معها هي «مُفرغة غير منتهية»، لأن ثمة طريقة للخروج مها، وعلمت عنها في البداية من جارون لانيير، المُعارض التكنولوجي اللامع. اعتاد جارون العمل مستشارًا في الكثير من الأفلام الديستوبية، مثل Minority Report، وقال، «لقد توقفت عن فعل ذلك لأنني كُنت أصمم وأخترع في الأفلام بعض التقنيات الديستوبية المروعة للتحذير من المستقبل، ولكني تفاجأت من وجود بعض العاملين في التكنولوجيا الذين يشاهدونها ويقولون “هذا رائع حقًا، علينا أن نخترع ذلك”». ويعلّق، «لا، لا، لا، ليس هذا ما قصدته»، وساعدني لانيير في رؤية تشبيه مفيد لوصف المشكلة، إذ كان من الشائع أن يطلي الناس منازلهم بالطلاء المحتوي على الرصاص واستخدام الغازولين المحتوي على الرصاص في سياراتهم. أتذكر والدتي كانت تضع الغازولين المحتوي على الرصاص في سيارتها، وكان معروفًا، بالعودة إلى روما القديمة، أن التعرض للرصاص أمر سيء بالنسبة للبشر.
كان الدليل بحلول السبعينيات واضحًا لدرجة أن المواطنون العاديون هم من قادوا الحراك ضد العناصر المحتوية على الرصاص، كانت الأمهات تقول، «هذا يضر بأدمغة أطفالنا حقًا. لن نسمح بوجوده». من المهم ملاحظة ما لم يفعلوه. فلم يقولوا، «دعونا نحظر الغازولين»، ولم يقولوا، «دعونا نحظر الطلاء»، بل قالوا، «دعونا نحظر الطلاء المحتوي على الرصاص والغازولين المحتوي على الرصاص».
يمكننا التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي من خلال التنظيم. أتذكر آزا راسكين، الذي اخترع جزءًا رئيسيًا من كيفية عمل الإنترنت، واخترع والده، جيف راسكين، أبل ماكنتوش لستيف جوبز، أتذكر ما أخبرني به آزا، «الخطوة الأولى من الحل بسيطة حقًا: نحن بحاجة إلى حظر نموذج العمل الحالي»، وهو ما أطلق عليه الأستاذ شوشانا زوبوف ببراعة «رأسمالية المراقبة». نحتاج أن نقول فقط إن نموذج العمل القائم على اكتشاف نقاط الضعف في انتباهك من أجل اختراقه وبيعه لمن يدفع أعلى سعر هو في الأساس غير أخلاقي وغير إنساني مثل الطلاء المحتوي على الرصاص، ولن نسمح به.
شون إلينگ
ماذا سيحل محله؟
يوهان هاري
أتذكر أنني قلت لآزا والعديد من الأشخاص الآخرين الذين جادلوني بهذا الأمر، «حسنًا. لنتخيل أننا نجحنا، ماذا سيحدث في اليوم التالي عندما أفتح فيسبوك؟ هل سيخبرني التطبيق “نأسف، لقد ذهبنا إجازة رحلة صيد؟»، فردوا عليّ جميعًا: «بالطبع لا». ما سيحدث هو أنهم سينتقلون إلى نموذج عمل مختلف. ولدينا جميعًا خبرة في نموذجي عمل بديلين محتملين. الأول هو نموذج الاشتراك والجميع يعرف كيف تعمل منصات مثل نتفلكس وإتش بي أو.
ويوجد نموذج آخر يمكن للجميع فهمه، ويشبه نظام الصرف الصحي. قبل أن يكون لدينا مجاري، كانت القاذورات تنتشر في الشوارع، وكانت الكوليرا منتشرة. لذلك دفعنا جميعًا لبناء المجاري وصارت المجاري ملكية جماعية. أنا أملك المجاري في لندن ولاس فيغاس، أنت تملك المجاري في المدينة التي تعيش فيها. لذا مثلما نمتلك جميعًا أنابيب المداري معًا، قد نرغب في امتلاك أنابيب المعلومات معًا، لأننا نحصل على ما يعادل الكوليرا والمكافئ السياسي للكوليرا جرَّائها.
ولكن مهما كان النموذج البديل الذي نعتمده، فمن المهم بمكان في هذا النموذج المختلف، أن انتباهك لم يعد المنتج الذي يبيعونه للعميل الحقيقي، المعلن. بل صرت أنت فجأة، أنت العميل الحقيقي.
يتعين على فيسبوك وشركات التواصل الاجتماعي الأخرى في هذا العالم أن تسأل، «ماذا يريد شون؟» أوه، يرغب شون في أن يكون قادرًا على الانتباه. دعونا نصمم تطبيقنا ليس لاختراق انتباهه إلى أقصى حد وجذبه وإفساده، ولكن لمساعدته على شفاء انتباهه. «أوه، يريد شون أن يكون قادرًا على مقابلة أصدقائه في وضع عدم الاتصال فلنصمم تطبيقنا لتسهيل لقاء الأشخاص عبر الإنترنت بدلاً من الجدال بلا نهاية مع الأشخاص حول قضايا تافهة» أود أن أزعم أننا بحاجة إلى حركة انتباه لاستعادة انتباهنا وتركيزنا. ويتطلب الأمر تحولًا في المنظور. فانا عندما لا أستطيع التركيز والاهتمام، ألوم نفسي. وأقول، «أنت ضعيف. أنت ضعيف الإرادة». نحن بحاجة إلى التوقف عن فعل ذلك، إذ ثمة من يتغذى على ضعفنا هذا ويغذّيه. تخيل أن يسكب أحدهم فوقك بودة تثير الحكّة، ثم يخبرك بأن عليك أم تمارس التأمل للتوقف عن الحكّة. علينا أن نخرج من هذه الدائرة النفسية وأن توجه أصابع الاتهام إلى مكانها الحقيقي.

[1] ملياردير أميركي من أصول مجرية، عُرف عنه أن الرجل الذي تسبب في إفلاس البنك المركزي البريطاني في عام 1992، وتُنشر حوله نظريات المؤامرة منذ التسعينات بأنه راعٍ للاضطرابات الاجتماعية في أميركا وعددٍ من دول العالم – المُترجم.
[2] نظرية مؤامرة ابتدعها اليمين الأميركي المتطرف، تدعي وجود دولة عميقة في الولايات المتحدة وكانت تعمل ضد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، واتهمَ مولدو النظرية عددًا من الممثلين والليبراليين والديمقراطيين باشتراكهم في عصابة دولية للاتجار بالأطفال، وتولدت من هذه المؤامرة نظريات أخرى مثل نظرية بيتزاغيت، وكان لهذه النظريات أثرها على الحياة السياسية الأميركية وأثرت كذلك على الانتخابات – المُترجم.
I could not resist commenting. Well written!
إعجابإعجاب