مُقدمة المُترجم
تناولت خلال الأسابيع الماضية في مقالتين الآثار المُدمرة لاستخدام الهاتف «الذكي» والتطبيقات على قدرة البشر على الانتباه سواء كانت تلك التطبيقات أو الصفحات تُقدم محتوى جيدًا أو لا، فالقضية ليست فيما يُقدمه الناس في تلك التطبيقات، وإنما في طريقة عملها نفسها، وكيف تسعى إلى إخضاع العقل البشري في لحظات ضعفه ليقضي أطول وقتٍ ممكن عليها.
كانت الردود مُتباينة، وعلّق عدد ليس بالقليل أن مسؤولية المراقبة والمُحاسبة تقع على كاهِل الأفراد أنفسهم تحت غطاء من الحُرية المُطلقة أو الفردانية المُطلقة، وفي الحالتين يبدو الأمر مرفوضًا، لأن الأطفال الذين صاروا يتعاملون مع هذه المواقع والتطبيقات جبرًا نظرًا للتعليم الإلكتروني وغيرها من طرق التواصل مع الأقران، وأيضًا لأن هذه الشركات تسعى إلى تضخيم ربحها، وأشارت العديد من الدراسات إلى أن مثل هذه المواقع تتسابق على انتباه المُراهقين والأطفال بوصفهم الفئة الديمغرفية الأكثر درًّا للربح. يأتي رفضي على الأقل من واقع أنّ الناس في هذه الفئة العمرية لا يتحلون بالوعي الكافي لمقاومة طُغيان الخوارزمية، ويمكن امتصاصهم بسهولة في دوائر القلق والاكتئاب والمعايرات وغيرها من مشاكل الصحة النفسية الناجمة عن استهلاك «خمر الانتباه».

أُرفق لكم هذه المقالة القصيرة من ترجمتي بتصرف نقلًا عن موقع ذا أتلانتيك ومن كتابة ديريك طومسون.
وسائل التواصل الاجتماعي: خمر الانتباه
نشر باحثون يعملون في إنستغرام العام الماضي نتائجَ مُربكة من دراسة داخلية حول تأثير التطبيق على الشابّات اليافعات، وكتبوا المؤلفون في عرض تقديمي حصلت عليه صحيفة وول ستريت جورنال : «قالت 32% من الفتيات المراهقات إنهن عندما يشعرن بالسوء حيال أجسادهن، فإن إنستغرام يفاقم من هذا الشعور». وتضيف الصحيفة، «غالبًا ما يشعرن بأنهنّ مدمنات ويعرفن أن ما يرينه ضار بصحتهنّ العقلية لكنهنّ يشعرن بأنهن غير قادرات على إيقاف أنفسهنّ».
لا يوجد أي جديد فيما قلنه للأسف، إذ إن الفيسبوك ومنذ استحواذه على إنستغرام وهو يجري الدراسات على التطبيق ويواصل الحصول على النتائج نفسها في كل مرة. تُشير إحدى صفحات العرض التقديمي: «إننا نجعل مشكلات صورة الجسد أسوأ بالنسبة لواحدة من كل ثلاث مراهقات»، وتوضح أخرى: «يقول المراهقون الذين يعانون من مشاكل صحة نفسية بأن تطبيق الإنستغرام يزيد الأمر سوءًا».
لم تكن النتائج كلها سلبية قطعًا، على الرغم من أن العديد من المراهقين أفادوا بأن استخدامهم لإنستغرام كان قهريًا ومحبطًا، إلا أن معظم من اعترفوا بهذا الجانب المظلم قالوا إنهم ما زالوا يعتقدون أن التطبيق ممتع ومفيد. لذلك فإن التعريف المنصف لإنستغرام وفقًا للموقع نفسه على النحو التالي: إليك منتج ممتع يبدو أن ملايين الأشخاص يحبونه، وعند استخدامه بجرعات كبيرة يكون غير مفيدٍ، ويجعل أقلية لا بأس بها تشعر بمزيد من القلق والاكتئاب وبالسوء تجاه أجسادها، وإلى جانب أن الكثير من الناس يكافحون لاستخدامه باعتدال.

هل الكلام أعلاه مألوف؟ يبدو استخدام مواقع التواصل الاجتماعي شبيهًا باستخدام الكحول، فهو أداة تسهيل اجتماعية قد تكون لها استخدامات مُبهجة، إلا أنه مُحبِط في الوقت نفسه، يشارك في تجربته الكثير من الناس ويمزجون فيه بين النشوة قصيرة المدى والندم طويل المدى، بالإضافة إلى كونهِ منتجًا يؤدّي إلى سلوكيات موجعة وإدمانية في أواسط أقلية كبيرة. يبدو أن وسائل التواصل الاجتماعي، مثل الخمر، تقدم للناس مزيجًا مسكرًا من الدوبامين والارتباك وبالنسبة للبعض، حالة من الاعتمادية. لنطلق عليهِ «خمر الانتباه».
اضغط هنا لقراءة مقالة «من سرق منك انتباهك؟» من سلسلة النباهة في عصر التّفاهة.
لا أقضي أنا شخصيًا الكثير من الوقت على إنستغرام، ولكن عند التفكير في الأمر، فأنا أحب تويتر تمامًا بالطريقة نفسها التي أحب بها النبيذ والويسكي. لا تنجح المقارنات الأخرى في نقل الصورة، إذ يشبّه بعض الأشخاص وسائل التواصل الاجتماعي بالوجبات السريعة، لكن الوجبات السريعة فائقة المعالجة لها القليل من الصفات الصحية القابلة للاسترداد مقارنة بكل بديل طبيعي تقريبًا. لدي علاقة أكثر تعقيدًا مع تويتر. فهو يجعل حياتي أفضل وأكثر إثارة للاهتمام، لإنه يربطني بالكتاب والمفكرين الذين لم أكن لأصل إليهم لولاه، لكن في بعض الأيام، ينحصر انتباهي في سلسلة من الجدل الخلافي والهراء وأشعر بالأسف الشديد للطريقة التي قضيت بها وقتي… فقط لأفتح التطبيق مرة أخرى، بعد عدة دقائق وبعد تلاشي الأسف ووصول إبهامي، دون تفكير، نحو الرمز الأزرق المألوف على هاتفي.
حاول الكتاب على مدى العقد الماضي وضع موقع الفيسبوك في مربعات تناظرية مختلفة. يشبه الفيسبوك خط سكة حديد عالمية أو مثل ساحة البلدة أو ربما مثل حكومة عابرة للحدود، أو بالأحرى شبكة كهربائية، أو صحيفة، أو قناة قائمة على الاشتراك.
كل تشبيه من التشبيهات سابقة يحتوي على جزء من الحقيقة، حيث إن قدرة موقع فيسبوك على ربط مجموعات من الأشخاص غير المتصلين سابقًا بالمعلومات والتجارة تجعله حقًا مثل سكة حديد القرن الحادي والعشرين. حقيقة أن مئات الملايين من الأشخاص يحصلون على أخبارهم من فيسبوك تجعله شبيهًا إلى حد كبير بصحيفة عالمية، لكن أيًا من هذه الاستعارات لا تجسد تمامًا الفسيفساء الكاملة لفيسبوك أو منصات التواصل الاجتماعي الأخرى، وعلى وجه الخصوص، لا يمس أي منها ما تفعله وسائل التواصل الاجتماعي بعقول الشباب الذين يستخدمونها أكثر من غيرهم.

كتب أندرو بوسورث، المدير التنفيذي السابق في فيسبوك، في مذكرة موسعة في عام 2019 على الشبكة الداخلية للشركة، «يقارن الناس وسائل التواصل الاجتماعي بالنيكوتين، وأجد ذلك مهينًا بشدة، ليس لي، ولكن للمدمنين». وواصل: «لقد رأيت أفرادًا من أسرتي يعانون من إدمان الكحول وزملاء دراسة يعانون من المواد الأفيونية. أعلم أن ثمة معركة من أجل مصطلحات الإدمان لكنني أؤيد بشدة علماء الأعصاب، ولكني لا أرى الفيسبوك على أنه نيكوتين، بل على الأحرى يشبه استخدامه السُكَّر. السكر لذيذ ونحبه جميعًا، لكنه مثل كل الأمور في حياتنا يلزمها الاعتدال في الاستخدام».
اضغط هنا لقراءة «مقالة لن تكمل قراءتها» من سلسلة النباهة في عصر التّفاهة.
مع حلول عام 2020، لم يكن نقاد فيسبوك هم من يقارنونه بالمواد الكيميائية المسببة للإدمان، إذ أخبر مستخدمو الشركة فريق البحث الخاص بها أن منتجاتها تشبه المواد الإدمانية المثبتة للاكتئاب تقريبًا. إذا لم تصدق هذه التقارير الذاتية، فربما ستقتنع بالكميات الهائلة من الأبحاث الخارجية التي تشير إلى نفس النتيجة. نشر باحثون من جامعة نيويورك وستانفورد ومايكروسوفت في يونيو ورقة بعنوانٍ جعل موقفهم من هذه المسألة واضحًا: «الإدمان الرقمي». ذكروا في الختام أن «مشاكل ضبط النفس تسبب 31% من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي». فكر في الأمر: حوالي دقيقة واحدة من كل ثلاث دقائق نقضيها على وسائل التواصل الاجتماعي تعبّر عن وقتٍ لم نكن نتمنى استخدامه عليها ولا نشعر بالرضا عند التفكير فيها.

يعترف فيسبوك بهذه المشاكل، ففي رد على تقرير وول ستريت جورنال، وقفت كارينا نيوتن، رئيسة السياسة العامة في إنستغرام، داعمةً لأبحاث الشركة، وكتبت «يجده الكثيرون مفيدًا في يوم، وإشكالي في اليوم التالي. قال الكثيرون إن إنستغرام يجعل حياتهم أفضل أو ليس له أي تأثير، لكن البعض، وخاصة أولئك الذين يعانون الإحباط، قالوا إن إنستغرام قد يزيد الأمور سوءًا». لكن هذه المعرفة الذاتية لدى إدارة فيسبوك لم تترجم إلى إصلاح كافٍ.
التفكير في وسائل التواصل الاجتماعي على أنها خمر للاهتمام يمكن أن يوجه جهود إصلاحها. لدينا نوع من البنية التحتية الاجتماعية الكارهة للكحول والتدخين، وهو ما ليس لدينا بعد لوسائل التواصل الاجتماعي. وتتضح الحاجة إلى الحد من الاستهلاك في التسويق لدينا: إعلانات البيرة تشجع الناس على الشرب بطريقة مسؤولة، وإعلانات التدخين تحذر الناس من أضرارهِ. وفي مؤسساتنا الحكومية توجد منشآت خاصة لمحاربة الإدمان بشتى أشكاله، لكن ليس الإدمان الرقمي؛ وفي سياستنا التنظيمية والاقتصادية: تُفرض الضرائب على الكحول والسجائر بمعدلات أعلى من الأطعمة والمشروبات الأخرى. كما يوجد أيضًا حد قانوني للسن المسموح به للشرب والتدخين (يطلب إنستغرام أن يكون مستخدموه في الـ 13 من عمرهم، ولكن العديد من مستخدمي التطبيق يكذبون بشأن أعمارهم).
ربما الأهم من ذلك، أن الناس طوروا مفردات مشتركة حول تعاطي الكحول/تدخين السجائر: «من الذي سيقود الليلة؟» أو «من سيتوقف عن الشرب؟» أو «أعطهِ/ا بعض الماء» أو «لقد أثقلت الشرب في نهاية هذا الأسبوع» «قد أحتاج إلى المساعدة». هذه العبارات مألوفة جدًا لدرجة أن الأمر قد يستغرق ثانية حتى ندرك أنها تنقل المعرفة الفعلية حول ماهية الكحول وما يفعله بأجسامنا. نحن نستهلك الخمر منذ عدة آلاف من السنين ودرسنا التأثيرات الكيميائية المحددة للمركب على الكبد ومجرى الدم، وعلى النقيض من ذلك، بدأنا في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي منذ أقل من عقدين، وما زلنا نحاول أن نفهم بالضبط ما تفعله، وعلى من، وبأي آلية.

ربما اقتربنا من الإجابة، إذ وجدت دراسة مؤلفة من 124 صفحة جمعها جوناثان هايدت، الأستاذ في جامعة نيويورك، وجان توينجي، الأستاذ في جامعة ولاية سان دييغو، أن الآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي تتركز بشكل كبير بين الشباب، والمراهقات على وجه الخصوص، يخبرنا بحث هيلين هارتون وبيب لاتاني أن المراهقين حساسون للغاية للتأثير الاجتماعي، أو لآراء المراهقين الآخرين. ما تفعله وسائل التواصل الاجتماعي هو اختطافها لحساسية الأقران الشديدة ودفع التفكير المهووس حول صورة الجسد والدرجة الاجتماعية والشعبية. يبدو أن إنستغرام يخلق، بالنسبة لبعض الفتيات المراهقات، اقتصاد شعبية خانق يدفع الناس شهرة بناءً على مظهرهم، ومن العوامل السلبية لذلك ارتفاع معدلات القلق بشكل خطير.
كيف نصلح الأمر؟ يجب أن نتعلم من الكحول والسجائر التي تُدرس وتُصنَّف وُتفرض عليها الضرائب وتُقيد، ومن شأن فرض قيود مماثلة أن تثبط إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بين المراهقين. يجب أن نستمر في دراسة كيف ولأجل من تكون هذه التطبيقات مدمرة نفسيًا والاستجابة مباشرة للإجماع الذي تتوصل إليه الأبحاث. يجب أن تحث الحكومات الشركات أو تطلب منها بناء المزيد من الأدوات داخل التطبيق لتثبيط الاستخدام المفرط ويجب على إنستغرام وصانعي التطبيقات الآخرين التفكير بشدة في رفع الحد الأدنى لسنهم للحصول على حساب ومنع المستخدمين الشباب من تقديم تواريخ ميلاد مزيفة. أخيرًا، يجب على الآباء والمراهقين والصحافة، وعلى نطاق أوسع، الاستمرار في بناء مفردات مشتركة ومجموعة من القواعد حول أخطار وسائل التواصل الاجتماعي الزائدة لمستخدميها الأكثر ضعفًا.

للاطلاع على سلسلة طُغيان الوقت، اضغط هنا.