«إلى مَن أهداني المُغامرة»، هكذا أبدأ مجموعتي القصصية الأولى «صندوق رمل»، بإهداءِ إلى صديقٍ رآني، وأهداني مع التجربة المُغامرة. وقف معي، وأدخلني في دوامات كثيرة. رآني واقفاً. صلباً. لكنه أدرك مدى هشاشاتي. أمسك بي، ورماني في متاهات عقلي. أذاقني حلو التجربة. رماني، ومشى. ثم ضعنا معًا. نهتدي بنورٍ قلبينا.
كان يعرفني، وكنت أعرفه. نخرج معًا، نجلس لأوقات طويلة، ولا نتكلم. نجلس. يُشغل فيديو لفيلسوف أو منظرٍ فرنسي. يتحدث عن الموت. أضحك أنا. لم أكن عميقاً بما فيه الكفاية. لم أعيه كما ينبغي. وكم كنت مُصيبا.
أؤمن أن مبنى شخصيتك وفكرك إذا حقق دورته الكاملة، فأنت قد استنفدت طاقة الحياة فيك. وستموت. ميتتين. الأولى تجهيزٌ للثانية، وستذهب إليه سعيداً. مفاجئاً. حتى الموت نفسه سيتفاجأ منك.
أقف الآن على حافة أخرى من حواف العالم.
ابعتدنا كثيرا.. كثير جداً. ابتعدنا خمس سنوات يا صاحبيّ.
أتذكر الآن جلستنا الأولى في جائزة وزارة التربية والتعليم. ولقاءنا الثاني، مشينا أنا وأنت ومحمود يومها، من غزة، إلى خانيونس. انقطع النفس في الطريق، فأخذنا سيارةً، وعُدنا. عُدت معي يومها، ونمت في فراشي. رأيتك ابني وقتها، ومن هنا صارت علاقات التوأم بيننا متضاربة.
خمس سنوات يا صاحبي، على جلسة الميناء، تحدثني عن خطط الهجرة، عن فرنسا تارةً، وعن بلجيكا تارةً أخرى. تضحك حزيناً. تقول لي: «ستخرجون أنت ومحمود لأنكم ستتخرجون قبلي».
انتظرتك طويلاً يا صاحبي. انتظرتك في الصحو، وانتظرتك في الحلم.
وقفتُ على حافة العالم الأولى. عند قبرك. قبل أعوام ثلاثة. ناديتك. وسمعتني، وكان هذا إيذانٌ منك إلي بالخروج.
**
أقف الآن على حافة العالم الآخر،
أعرفك هناك،
أستنير بضحكك،
رميتني في المتاهة
لكنني فيها وجدتني.
ووجدتك فيَّ
والآن
صرت بعيدا.
بعيداً بالسنين.
الأمتار هينة،
خمسٌ يا صاحبي.
وكأنها البارحة.
أردت اللحاق بك قبلاً
لكنك مددت يدك إليّ،
تقول لي
لم تكتمل.
واصل المسير.
وستشعر بالحياة
تلفظك عند اكتمالك.
تخاف الحياة من الآلهة.
**
وداعا صديقي، ومرحبا.