جايمس سالتر (1925-2015) روائي وكاتب قصص أميركي، كان يعمل طيارًا في القوات الجوّية الأميركية، لكنه استقال بعد نجاح روايته “الصيّادون” عام 1975.
_______________
كان والتر سوتش مترجمًا جيدًا. وكان يحب أن يكتب بقلمه الأخضر حيث اعتاد أن يرفعه في الهواء قليلًا بعد انتهائهِ من كتابة أي جملة، كما لو أن يده جهازًا كهربائيًّا. بإمكانه أن يتلو عليكَ بعض كتابات الشاعرة بلوك باللغة الروسية، ثم يعطيك ترجمة ريلكه الألمانية لتلك الكلمات وهو يشرح الجمال فيها. كان اجتماعيًا، ولكنه أحيانًا لا يُحتمل. كان يتلعثم في بداية حديثه ويعيش مع زوجته بطريقة أحبوها، ولكن زوجته ماريت، كانت مريضة.
كان والتر جالسًا مع صديقة العائلة سوزانا. وأخيرًا، سمعوا صوت ماريت على الدرج قادمة إلى الغرفة. كانت ترتدي فُستانًا حريريًا أحمر، ومغريًا، إذ يظهر ثدييها مرتاحين، وشعرَها أنيقًا داكنًا. في سلالها البيضاء وفي خزانتها يوجد الكثير من الملابس المطوية والملابس الداخلية والقطع الرياضية والفساتين الليلية والأحذية المرتمية بجانب الأرضية. العديد من الأشياء التي لن تحتاجها أبدًا. وأيضًا كانت هناك جواهر وأساور وقلائد وصندوقًا يحوي كل خواتمها. نظرت إلى الصندوق بعناية ثم اختارت بعض الخواتم، فهي لا تريد لأصابعها الهزيلة الآن أن تبدو عارية.
قال زوجها:
– تبدين جميلة حقًا.
– أشعر كأني في موعدي الأول معك أو شيء كهذا! هل لديك أي مشروب؟
– نعم.
– أريد كأسًا. ضع عليه الكثير من الثلج.
ثم جلست.
– لم أعد شابة كما كنت ولم يعد في مقدوري فعل ما اعتدت فعله، وهذا هو أسوأ ما في الموضوع. لقد فقدت طاقتي، ولن تعود مرة أخرى. لم أعد أحب أن أصحو أو أتحرك حتى!
تقول سوزانا:
– لا بد أن الأمر صار صعبًا جدًا.
– صعب بشكل لا تتصورينه.
يعود والتر وفي يدهِ المشروب، ثم يعطيهِ لزوجتهِ.
أخذت الكأس وقالت:
– بصحة الأيام السعيدة.
ثم كما لو أنها تذكرت شيئًا، ابتسمت في وجوههم ابتسامة مخيفة. كان جليًا أن تلك الابتسامة تعني العكس تمامًا مما بدا عليها.
كانت الليلة التي اتفقوا عليها. كانت الإبرة في صحن فنجان في الثلاجة. وفّر الطبيب المكونات. ولكن كان لا بد من عشاء وداعٍ أولًا، لو أرادت طبعًا. وقالت ماريت بأنها لا تريد العشاء أن يكون لها هي وزوجها فقط. غريزتها دفعتها لذلك، فطلبوا من سوزانا، فهي أفضل من أن يحضروا شخصًا قريبًا حتى لا يكون الأمر حزينًا. فعلى السبيل المثال، ماريت وأختها لم تكونا على وفاقٍ، ولا حتى مع أي صديق قديم. كانت سوزانا شابة يافعة. كان وجهها عريضًا وجبهة رأسٍ بيضاء وعالية. كانت تبدو كأنها ابنة بروفيسورٍ أو مصرفيٍ ما. قال أحد أصدقائهم عنها بأنها فتاة قذرة، مبديًا في نفس الوقت درجة من الإعجاب بها.
كانت سوزانا تجلس مرتديًا تنورة قصيرة وتشعر بالقلق قليلًا. لقد كان من الصعب على أي منهم أن يتظاهر بأن المشهد مُجرد عشاءٍ عاديّ. لا يمكن لها أن تكون ارتجالية وأن تكون نفسها. وصلت سوزانا إلى المنزل وقت غياب الشمس خلف خطّ الأفق. بدا المنزل بنوافذه المُضاءة كما لو أنه يستضيف حفلة.
حملقت ماريت في الأشياء في الغرفة وفي صورها في الإطارات الفضية وفي المصابيح وفي الكتب الكبيرة عن السُريالية وفي تصميم المشهد الطبيعي على الحائط وفي المنازل الريفية التي أرادت أن تجلس فيها وأن تقرأ وفي الكراسي وفي السجادة ذات الألوان الباهتة حتى. نظرت إلى كل تلك الأشياء كما لو أنها تعني شيئًا، في حين أنها لم تعنِي أي شيء حقًا، باستثناء شعر سوزانا الطويل النضر والذي عنى شيئًا، إلا أنها لم تعرف بالضبط ما هو.
فكّرت ماريت، بأن هناك بعض الذكريات التي ترغب في أخذها معها، ذكريات قديمة قبل مجيء والتر، ذكرياتها وهي فتاة. ذكريات من منزلها، ليس منزل زوجها، وإنما منزلها الأصلي الذي يحضن سرير طفولتها والنافذة المُطلة على الغابة والتي شاهدت منها عواصف الشتاءات الطويلة الدائمة. ذكرياتها مع والدها حين ينحني ليقول لها «تصبحين على خير». وذكرياتها مع والدتها مع ضوء المصباح الذي كانت تمسكه بمعصمها في محاولة منها لتربط السوار في يدها.
ذلك هو المنزل الذي تريد، أما الباقي، فقد كان مُجرد إضافات. الباقي كان جديدًا كحياتها. ستعيش دون أي تفكير أو قلق، ثم ذات صباح سينتهي كل شيء، عندما عثرت على بقع الدماء تلك.
– لقد شربت الكثير من هذا!
– المشروب؟
– نعم.
– أوه، تقصدين على مر السنين؟
– نعم، على مر السنين. ما الساعة الآن؟
– الساعة الثامنة إلا ربع.
– هل نبدأ الآن؟
– وقتما تريدين، لا داعي للعجلة.
– لست مُستعجلة.
ولكن في الواقع، كان لديها رغبة جامحة للرحيل. لقد كانت على بعد خطوة واحدة فقط.
– متى موعد الحجز؟
– أي وقتٍ تريدين.
– هيا بنا إذًا.
لقد كان في رحمها، ولكنه انتقل ووصل إلى رئتيها. واضطرت في النهاية إلى التصالح مع الموضوع. بدا جلدها شاحبًا فوق خط العنق المربع في فستانها. بدا كما لو أنه يبعث ظلامًا. لم تعد تشبه نفسها. انتهى ما كانت عليهِ قبلًا، انتهى وأُخذ منها. كانت التغييرات الحاصلة مخيفة، وخصوصًا تلك التي في وجهها. صار وجهها جاهزًا لما بعد الموت، ولمن ستقابلهم هناك. لقد صار صعبًا على والتر أن يتذكر كيف كان وجهها في السابق. كانت امرأة مختلفة تمامًا عن تلك التي وعدها بأنه سيساعدها عندما يحين الوقت.
جلست سوزانا في الخلف في أثناء الرحلة. كانت الطرقات فارغة. مرّوا بمنازل كان ينبعث منها أضواء خفيفة. جلست ماريت صامتة. شعرت بالحزن، ولكن بالارتباك في الوقت نفسه. كانت تحاول أن تتخيل كل شيء حولها وكيف سيكون موجودًا دون أن تكون هي هناك لتراه. لم تكن قادرة على التخيل. كان من الصعب عليها أن تتخيل أن العالم سيبقى موجودًا بعد رحيلها.
انتظروا بقرب الحانة في الفندق الصاخب. رجال بلا معاطف وفتيات يتحدثن ويضحكن بصوتٍ عالٍ. فتيات لا يعلمن أي شيء. تشغل الحيطان بوسترات فرنسية كبيرة وطبعات حجرية قديمة في إطارات داكنة.
تقول ماريت:
– لحسن الحظ، فأنا لا أعرف أي أحدٍ هنا.
يرى والتر زوجين كثيري كلام كان يعرفهما هو وماريت
– لا تنظري. لم يرونا. سأحاول أن أنقل طاولتنا إلى الغرفة الثانية.
– هل رأونا؟ لا أشعر بأني قادرة على الحديث مع أي أحد.
– لا تقلقي، نحن بخير.
كان النادل يرتدي مئزرًا أبيضًا وربطة عنقٍ سوداء. يعطيهم النادل قائمة الطعام وقائمة نبيذ.
يسأل النادل:
– هل أحضر لك أي شيء؟
– نعم، طبعًا.
كان والتر ينظر إلى القائمة والتي كانت الأسعار فيها تزداد تدريجيًا. كان في القائمة نبيذ الفرس الأبيض (Cheval-Blanc) مقابل خمسمائة وخمسة وسبعين دولارًا.
– هل لديكم من نبيذ الفرس الأبيض؟
– إنتاج 1989؟
– نعم، أحضر لي زجاجة.
– ما هو هذا النبيذ؟ هل هو أبيض؟
– لا، إنه أحمر.
– لقد رائعًا منكِ أن تشاركينا اليوم، سوزانا. إنها ليلة لطيفة وخاصة.
– نعم.
– ليس من عادتنا أن نطلب نبيذًا جيدًا ومعتّقًا بهذا القدر.
اعتاد والتر وماريت أن يجلسا في هذا الفندق وأن يأكلا فيه، خصوصًا بجانب البار وصفوف الزجاجات اللامعة. ولم يطلبا أبدًا أي نوع من النبيذ يكلف أكثر من خمسة وثلاثين دولارًا.
يسأل والتر في أثناء الانتظار:
– كيف تشعرين؟ هل أنت بخير؟
– لا أدري كيف أعبر عن شعوري، فأنا تحت تأثير المورفين.
تقول ماريت لسوزانا:
– يأخذ المورفين مفعوله، ولكن… هناك العديد من الأشياء التي لا يجب أن تحصل لك!
كان العشاء هادئًا، وكان من الصعب أن يكون الحديث عاديًا. طلبوا زجاجتين من النبيذ. لن يشرب والتر شيئًا قويًا وجيدًا مثل هذا النبيذ بعد اليوم. سكب والتر آخر قطر من الزجاجة الثانية في كأس سوزانا.
– لا، أنت من يجدر بهِ أن يشربه. إنه لك.
تقول ماريت:
-لقد شرب بما فيه الكفاية. لقد كان جيدًا؟ أليس كذلك؟
– جيدٌ جدًا.
– هذا النبيذ يجعل الشخص يشعر أن هناك أشياءً… أوه لا أدري… أشياء كثيرة. كان سيكون جميلًا لو أننا شربنا منها دائمًا.
قالتها ماريت بطريقة مؤثرة جدًا.
كان ثلاثتهم يتشاركون الشعور بالغبطة. جلسوا للحظات، ثم قرروا في النهاية المغادرة، وفي طريقهم للخارج، كان البار ما يزال صاخبًا.
حدّقت ماريت في النافذة في أثناء سير العربة. كانت متعبة. اتجهوا إلى البيت الآن. تحرك الرياح ظلال أعالي الأشجار. وارتسمت في سماء تلك الليلة غيوم زرقاء ألقة وتلمع كما لو أنها في وضح النهار.
-يا لها من ليلة جميلة. أليس كذلك؟ أنا متيمة جدًا بهذه الليلة. هل أنا مخطئة؟
– [والتر يوضح صوتهِ]، لا، لستُ مخطئة، فالليلة ساحرة بالفعل.
– هل لاحظت جمال الليلة يا سوزانا؟ متأكدة بأنك لاحظت. كم عمرك؟ لقد نسيت.
– تسع وعشرون عامًا.
– تسع وعشرون.
صمتت ماريت للحظات.
– لم ننجب أي أطفال. هل تأملين في أن يكون عندك أطفال؟
– أوه، بعض الأحيان أشعر كذلك. لم أفكر بالموضوع كثيرًا، لأن هذا واحد من المواضيع التي يجدر بالإنسان أن يكون متزوجًا ليبدأ بالتفكير فيها.
– ستتزوجين.
– نعم، ربّما.
– يمكنك أن تكوني متزوجة في دقيقة.
كانت ماريت متعبة لحظة وصولهم إلى البيت. جلسوا جميعًا في غرفة المعيشة كما لو أنهم قاد عادوا للتو من حفلة كبيرة وليسوا جاهزين بعد للنوم. كان والتر يفكر في القادم، في الضوء الذي سيعمل لحظة فتح باب الثلاجة وفي الحقنة الفولاذية حادة الزاوية. سيكون عليهِ أن يحقنها في الوريد. حاول ألا يفكر في الموضوع. سيجد الطريقة المناسبة. كان قلقه يزداد شيئًا فشيئًا.
– أذكر أمي [تقول ماريت]. كانت تريد إخباري بأشياء في النهاية، أشياء كانت قد حصلت عندما كنت صغيرة. نامترايماهينمعتيديهودنر وآن هيرنغ تو. كانتا متزوجتين أما تيدي هودنر فكان أعزبًا. كان يعمل في الإعلان، ويلعب الغولف أغلب الوقت. واستمرت أمي في إخباري بقصص مثل هذه، ومن نام مع من. هذا كان كل ما أرادت إخباري به. وطبعًا في ذلك الوقت، كانت راي شيئًا عظيمًا.
قالت ماريت بعدها:
– سأذهب إلى الطابق العلوي.
وقفت وأخبرت زوجها بأنها بخير.
– لا تأتِ بسرعة. عمت مساءً سوزانا.
وعندما لم يبق في الغرفة إلا والتر وسوزانا، اعتذرت سوزانا وقالت أن عليها الرحيل.
– أرجوكِ، لا. ابقي.
هزت رأسها نافيةً.
– لا يمكنني.
– أرجوك. يجب أن تبقي هنا. سأذهب للطابق العلوي بضع لحظات، وعندما أعود، لا أريد أن أكون لوحدي.
سيطر الصمت على المكان.
– سوزانا…
كانا يجلسان والصمت يكمم أفواههما.
– أعلم بأنك قد فكّرت بكل هذا.
– نعم، قطعًا.
وبعد عدة دقائق، نظر والتر إلى ساعته، وبدا أنه يريد قول أمر ما، لكنه لم يقله. بعدها بلحظات، نظر إلى الساعة مُجددًا، ثم غادر الغرفة.
كان المطبخ قديم الطراز وغير مرتبٍ ويشبه حرف L في تصميمهِ وحوض أبيض وبخزائن خشبية ومطلية عدة مرات. صنعوا في الصيف الكثير من مرطبانات مُربّى الفراولة، عندما كانت صناديق الفراولة تُباع في الطريق إلى محطة القطار في المدينة. فراولة لا تُنسى، ورائحتها كانت مثل العطر. توجه والتر نحو الثلاجة، وفتح بابها.
كانت عُلب المُربى في الثلاجة مرصوصة بجانب بعضها البعض. كانت هناك عشرة مرطبانات. حاول والتر أن يفكّر في طريقة لكيلا يستمر فيما يفعله. كأن يرمي مثلًا الحقنة ويكسرها، ثم يتذرع بالقول بأن قد اهتزت…
سحبَ صحنًا ثم غطّاه بمحرمة. كان الأمر أسوأ بهذه الطريقة. وضع الصحن جانبًا وحمل الحقنة. حملها في يدهِ بكل الطرق الممكنة، وأخيرًا، أخفاها خلف قدمهِ، وعندها شعر بالخِفّة كما لو أنه ورقة خفيفة ومُفرغة من القوة.
كانت ماريت قد حضرت نفسها. وضعت بعض المكياج على عينيها وارتدت فُستانَ ساتانِ ليلي مكشوف الظهر. كان هذا الثوب هو ما سترتديه في العالم الآخر. لقد سعت بكل جهدها لتؤمن بالحياة بعد الموت. كان العبور بين العالمين يتم عبر قاربٍ. كانت عظمة الترقوة لديها مغطاة بقلادة فضية. كانت مُنهكة. لقد كان للنبيذ مفعوله، ولكنه لم يهدئها.
وقف والتر عند المدخل كما لو كان ينتظر الإذن بالدخول. نظرت إليه دون أن تنبس ببنت شفة. كان يحمل الحقنة في يدهِ. رأتها ماريت. ارتفعت نبضات قلبها بوتيرة سريعة، لكنها أخفت شعورها، ثم قالت:
– حسنًا، عزيزي.
حاول أن يردّ عليها. كانت قد وضعت أحمر شفاهٍ جديدٍ. بدا فمها داكنًا. كانت هناك بعض الصور التي وضعتها ماريت على السرير.
– تعال… ادخل.
لكن كل ما استطاع والتر قوله:
– لا، سأعود بعد قليل.
سارع بالنزول إلى أسفل. كان سيفشل، وكان عليهِ أن يشرب بعض النبيذ. غرفة المعيشة كانت فارغة، وسوزانا قد غادرت. لم يشعر والتر بالوحدة مثلما شعر بها في تلك اللحظة. توجه إلى المطبخ وسكب بعض الفودكا عديمة الرائحة في كأسٍ ثم شربها بسرعة. صعد درجات البيت مرة أخرى، ولكن ببطء. جلسَ على السرير بجانب زوجتهِ. كانت الفودكا تجعله مخمورًا. لم يشعر بأنه على ما يرام.
– والتر؟
– نعم؟
– ما تفعله هو عين الصّواب.
أمسكت ماريت بيدهِ. أرعبه ما فعلت. راوده إحساس بأنها أمسكت بيدهِ لتناشده ليذهب معها.
قالت ماريت بهدوء:
– أتعلم بأني أحببتك جدًا؟ أحببتك بكل ما لديّ. أعلم بأني عاطفية الآن…
بكى والتر:
– آآآآه يا ماريت.
– هل أحبَبْتَنِي؟
كانت معدته مضربة جدًا. أجاب:
– نعم، أحببتُكِ!
– اعتنِ بنفسك جيدًا.
– حسنٌ.
يُصادف أن والتر كان بصحة جيدة، صحيح أنه كان أثقل مما كان عليهِ قبلًا، ولكنه كان بصحة جيدة… معدته المدّورة يغطّيها الشعر، وكان يهتم بيديهِ وأظافره ويعتني بهما.
انحنت قليلًا إلى الأمام وعانقته، ثم قبّلته. للحظةٍ، لم تعد خائفة. كانت ستعيش مُجددًا وتكون شابة مُجددًا، وقد كانت هكذا من قبل. سحبت ذراعها، وعلى جانبها، كان هناك عرقين مرئيين لونهما زنجاريّ. بدأ والتر بالضغط عليهما ليظهرا أكثر. أشاحت ماريت برأسها بعيدًا.
– أتذكر عندما كنت أعمل عند بايتس، والتقينا للمرة الأولى؟ يومها عرفتُ أنك من أريد.
بدأت الإبرة بالارتجاج بينما كان يحاول والتر غرزها.
– لقد كنتُ محظوظةً. لقد كنت محظوظة جدًا.
يتنفس والتر بصعوبة. انتظر قليلًا، ولكنها لم تقل أي شيء. لم يكن يصدق ما كان يقوم بهِ. غرز الإبرة. كان الأمر بسيطًا، ثم حقن ما فيها. سمعها تزفر متنهدة. كانت عيناها مغلقتين وهي مستلقية على ظهرها. كان وجهها هادئًا. لقد فارقت روحها جسدها. يفكر والتر: «يا إلهي». عرفها في عشرينياتها. كانت طويلة وبريئة. وها هو الآن وقد دفعها تحت نهر الزمان كأن تدفن أحدهم في البحر. كانت يدها لا تزال دافئة. سحبها إلى شفتيه، وَسَحب المفرش حتى يغطي ساقيها. كان المنزل هادئًا هدوء المقبرة. صمتٌ عمّ المكان، صمت ما فعل. لم يستطع والتر سماع الرياح.
نزل إلى الطابق الأرضي ببطء. خامره شعور عظيم بالراحة وبالحزن في الوقت نفسه. كانت الغيوم الزرقاء تغطي ثوب الليل. وقف خارج المنزل لعدة دقائق ثم رأى سوزانا تجلس في سيارتها ساكنة دون حراك. أنزلت سوزانا النافذة عندما اقترب والتر منها.
– أرى بأنكِ لم تذهبي.
– لم أتحمّل البقاء هناك.
– لقد انتهى الأمر. تعاليّ إلى الداخل. سأعد شَرابًا.
وقفت معه في المطبخ وكانت يداها متشابكتين وكل ذراع على كوع. يقول والتر:
– لم يكن الأمر عسيرًا. كل ما في الأمر أنني أشعر بالـ… لا أدري.
شربا وهما واقفين. تقول سوزانا:
– هل أرادتني حقًا أن أكون معها في الغرفة في تلك اللحظة؟
– عزيزتي، لقد اقترحتْ هذه الفكرة وحسب، لم تكن تعلم أي شيء.
– كنت أتساءل وحسب.
– صدّقيني. لا شيء.
وضعت سوزانا مشروبها جانبًا، ولكن والتر قال لها:
– لا تضعيهِ. اشربي. سيساعدكِ.
– أشعر بشعورٍ غريب.
– غريب؟ لستِ مريضة، أليس كذلك؟
– لا أدري.
– لا تمرضي. تعاليّ معي… انتظري، سأجلب لكِ بعض الماء.
كانت تركز على الاستمرار بالتنفس.
-عليكِ أن تستلقي قليلًا.
– لستُ بحاجة إلى هذا، أنا بخير.
– تعاليّ.
قادها والتر بتنورتها القصيرة وقميصها إلى غرفة بجانب الأمامية وأجلسها على سرير. كانت سوزانا تأخذ أنفاسًا بطيئة.
– سوزانا!
– نعم؟
– أنا بحاجة إليك.
لربما سمعته أو لا. كان رأسها مرميًّا إلى الخلف مثل امرأة تتلهّف لقاء الله.
تمتمت:
– لم يكن يجدر بي أن أشرب هذا المقدار.
بدأ والتر بفك أزرار قميصها.
قالت سوزانا: «لا» وحاولت أن تعيد تزرير القميص مرة أخرى.
كان يفك حمّالة صدرها، وظهر ثدياها الرائعان. لم يستطع أن يمنع نفسه من التحديق فيهما. قبّلهما بشغف. شعرت بنفسها تنتقل إلى الجانب عندما قام بسحب الغطاء الأبيض. حاولت أن تتكلم مُجددًا، لكنه وضع يده على فمها ودفعها إلى الأسفل. افترسها، وكان يحملها قريبة منه كما لو أنه كان يخاف من النهاية، ثم ناما نومًا عميقًا.
في الصباح الباكر، كان الضوء واضحا ومشرقًا جدًا. لقد صار البيت أبيضًا أكثر. كان المنزل يبدو بين منازل الجيران أكثر نقاءً وهدوءًا. كان ظل شجرة الدردار الطويلة على البيت كما لو أنه قد رُسم بقلم رصاص. كانت الستائر شاحبة ولا تتحرك. في الخلفِ، كانت الحديقة الواسعة التي كانت سوزانا تتجول فيها في إطار جولتها في الحديقة في اليوم الذي رآها والتر فيه لأول مرة، طويلة وممشوقة القوام. كانت منظرًا لم يكن قادرًا على محوه. بدأ كل شيء عندما جاءت لتنظف الحديقة مع ماريت مرة أخرى.
جلسا على الطاولة يشربان القهوة. كانا متواطئين. ليس لفترة طويلة، ولم يكونا قريبين من بعضهما البعض، إلا أن والتر كان معجبًا بها. كانت مثيرة أكثر بدون مكياج. لم يكن شعرها الطويل مُمشطًا. كانت تبدو ودودة للغاية. كان هناك بعض الاتصالات التي يجب إجراؤها، ولكن والتر لم يكن يفكر في إجرائها. كان يفكر في الصباحات القادمة. في البداية، لم يسمع والتر الصوت من خلفهِ، ولكن خطوة بعد خطوة، ارتعدت سوزانا خوفًا وصار لونها أبيضًا عندما رأت ماريت تنزل الدرج. كان المكياج على وجهها باهتًا، وكان أحمر شفاها الداكن متشققًا. حدّق والتر غير مصدّق ما رأى أمامه. قالت ماريت:
– حدث خطأ ما.
يسأل والتر بحماقة:
– هل أنت بخير؟
– لا. لا بد أنك قد أخطأت فيما فعلت.
تمتم والتر:
– يا إلهي!
جلست ماريت على الدرجة الأخيرة، وبدا أنها لم تلحظ سوزانا. قالت وهي تبكي:
– ظننت بأنك ستساعدني.
– لا أفهم ماذا حصل.
بدأت ماريت تُكرر:
– كل شيء خطأ.
نظرت ماريت إلى سوزانا:
– وأنت؟ ما زلتِ هنا؟
– كنت على وشك المغادرة.
قال والتر مُجددًا: «لا أفهم!»
نشجت ماريت: “«عليّ أن أخوض هذه التجربة مرة أخرى!»
فرد عليها: «أنا آسف. أنا آسف جدًا».
لم يكن قادرًا على التفكير بأي شيءٍ آخر ليقوله. كانت سوزانا قد ذهبت لتحضر ملابسها، ثم غادرت من الباب الأمامي. وهكذا انفصل والتر وسوزانا بعدما اكتشفتهما زوجته. التقى بها مرتين أو ثلاث مرات لاحقًا لأنه أصرّ عليها، ولكن من دون جدوى. أيًا كان ما يجمعهما سويًا، فقد ذهب واختفى. أخبرته بأنها لا تستطيع مساعدته. وهكذا سارت الأمور.
لو تضيف الترجمة في ملف للتحميل ، أفضل بكتير ، يعطيك العافية
إعجابإعجاب
شُكرًا ميساء، سأحاول في المرات القادمة. الله يعافيك.
إعجابإعجاب